فن الحياة

mainThumb

06-07-2009 12:00 AM

بلال الشبول

لم ترهبه أشعة الشمس بكل وهجها وحرارتها .. كان هناك شيء أكبر من ذلك يشغل باله وينسيه جنون الشمس ولهيبها ... يسير بكل حرص وأمل متنقلاً من مركبة إلى أخرى ينثر أخبار الصباح إلى جميع خلق الله ... محتفظا بنظرة التحدي والعزيمة في عينيه .... على صغر سنّه إلا أن له فلسفته الخاصة به ... ينظر إلى أبناء جيله بعيون رضا ومحبة ... لا يتبرم مثلا لأن من هم في سنه يذهبون إلى المدرسة يوميا ولديهم آباء يلبون جميع مطالبهم ... يملك فلسفة تفوق عمره وتشعره بالرضا ... فهذا الكون الواسع ليس جميع البشر فيه يعيشون بنفس الظروف الحياتية ... منهم من يزداد امتلاءه ولا يعرف أين يقضي بوقته وماله الفائض عن حاجته فيتجولون بين عواصم العالم كما يتجول هو بين المركبات راكضا من مركبة إلى أخرى ليبيع قدر استطاعته .. وهناك فئة أخرى تصل الليل بالنهار لتأمين أدنى متطلبات الحياة ... ويستغرب لماذا كل هؤلاء الناس بجميع فئاتهم يتبرمون ويضيقون بهذه الحياة ... لطالما لكل واحد منهم رسالته وقيمته في الحياة ... ولطالما هذه الحياة محدودة وجميعنا نهايتنا واحدة ... ما أن نكون تحت التراب حتى نتساوى ... لماذا ينظر البعض للآخر بطبقية ... لتكمل الحياة لا بد من فقير وغني .. و إذا ما اختارني الله لأكون من طبقة الفقراء ... وليكن ! ... فهذه هي الحياة ... تلك كانت فلسفته التي لم يتعلمها في المدارس ... بل تعلمها من عمله اليومي في بيع الجرائد ومن كلمات أمه .
بداية كان يضيق بعمله ويشعر بالسخط على كل من حوله ... لماذا هو ! ... لماذا كل هؤلاء الأطفال يركبون السيارات فرحين مع والديهم يلبسون ثيابا نظيفة لا همّ لديهم ...فجميع طلباتهم متوفرة ... بينما هو المعيل الوحيد لعائلته ... والده خلّف له هذه المهنة ورحل عن هذه الدنيا ... بالإضافة إلى ثلاث إخوان صغار ووالدته الضعيفة .
فهو المعيل الوحيد لهم . ولكن ما يجده عند عودته إلى بيته من أم صبورة حنونة رقيقة ينسيه تعب يومه ويخمد نار القهر التي بداخله ... لكلماتها الأثر الكبير على نفسه ... تزرع في داخله الرضا والثقة ... وتروي قلبه محبة .
فالنظر في وجه أمه يزيده أمنا وعزيمة ... علّمته أن السعادة لا تؤتى بالمال وأن هؤلاء الناس الذين يراهم وسط مركباتهم بوجوه ممتلئة لا يعكسون داخلهم ... علّمته أن السعادة داخلية ... تنبع من داخل الإنسان ... متى وجدها ستبقى داخله ولو قطّع جسده أمام عينيه ... وإذا ما فقدها لن يجدها و لو ملك الدنيا وجاب أرجاء الكرة الأرضية .. لأنها بداخله ... وسيجدها فقط إذا بحث داخل نفسه .
لذلك أصبح ينظر إلى عمله بكل جدّية ... فليست طبيعة العمل ما يجلب السعادة ... بل تستطيع أن تنثر السعادة بأي عمل تعمله ... لا بل أصبح يشعر بالسعادة أكثر من أولئك الجالسين داخل سياراتهم تخنقهم ربطاتهم بوجوه لا تتقن سوى لغة الأرقام ... وكأنهم عبيدا لعملهم ... ويشعر ببرودهم الإنساني عندما يلتقط من أيديهم ثمن الجريدة ... وعندما يرى غيره من المشردين و المتسولين ... عندها يقدّر حجم النعيم الذي يحياه ... له بيت يؤويه ... وعائلة تحضنه .
فن الحياة ... ذلك ما يجب أن نتعلمه ونتقنه ... فالحياة ليست وهما بل حقيقة يجب أن ندركها . قد تقضي سنين العمر لاهثا معتقدا أنك تبحث عن السعادة ... و في آخر محطاتها تشعر أنك أضعت الكثير من سنين العمر .
طائر صغير يبني عشا ... أو لوحة عابرة تراها وسط زحام حياتك ... أو كلمة طفولية عفوية . كل تلك قد تعلمنا الحياة ... قد تجد بها حكمة أكثر وأعمق من قراءة كتاب ما ... أجمل ما في الوجود هو أن نجعل للنور طريقا يؤنس وحشة أيامنا .

human_touch26@yahoo.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد