اعتمدوا على أميركا .. بارككم الله!

mainThumb

20-05-2008 12:00 AM

أنهى الرئيس الأميركي جورج بوش خطابه أمام "الكنيست" في الذكرى الستين لإنشاء دولة إسرائيل بقوله: "اعتمدوا على أميركا... بارككم الله".
ليس ثمة جديد في مضمون العبارة من منظور التأييد الأميركي الدائم لإسرائيل منذ نشأتها، لكن العبارة تشير مع ذلك إلى واحدة من أكثر خطب الرؤساء الأميركيين تماهياً مع تلك الدولة، ولولا بقية من حذر علمي لقلت إنه أكثرها. واعتقد أن رئيساً أميركياً واحداً لم يكيف الدعم الأميركي للدولة الصهيونية على هذا النحو المؤسس على الأساطير الدينية والنزوع العاطفي، ولم يجمع في وثيقة واحدة المشابهة بين طبيعة نشأة الولايات المتحدة الأميركية ونشأة إسرائيل، والإعلاء من شأن القيم والمجتمع والسياسة في هذه الدولة كما فعل جورج بوش في خطابه هذا. ناهيك عن علامات الحبُور والابتهاج التي ميزت إلقاءه الخطاب، ونطقه عبارات وردت في خطابه بالعبرية، وبعض الإيماءات التي تخللته وعلى رأسها غمزة العين تلك التي وجهها لواحد من الذين وقفوا انتشاءً بمقطع من مقاطع خطابه الذي ألهب مشاعر مستمعيه غير مرة فلم يكتفوا بالتصفيق الحاد وإنما زادوا عليه الوقوف إعجاباً وامتناناً وتقديراً.

كانت المناسبة كلها تشي بواقع الدعم الأميركي القوي لإسرائيل بكافه أبعاده القديمة والجديدة، فما بين مسارعة الولايات المتحدة الأميركية إلى الاعتراف بالدولة الصهيونية بعد دقائق من نشأتها كما ذكّ?Zرّ?Zن?Zا بوش في خطابه، وتأييدها في ظل إدارته الموقف الإسرائيلي الرسمي من قضايا جوهرية في الصراع حول فلسطين كقضيتي اللاجئين والاستيطان، يبدو واضحاً كيف تطورت السياسة الأميركية من التأييد الصريح لإسرائيل الذي يحاول مع ذلك ألا يبدو في تناقض مع قواعد القانون الدولي إلى التأييد الصريح الذي يضرب عرض الحائط بهذه القواعد التي لا تجيز تشريد الشعوب أو تغيير البنية الديموغرافية للأراضي المحتلة.

لقد تضمن خطاب بوش تنظيراً دينياً لشرعية الدولة الصهيونية من خلال حديثه عن الوعد القديم الممنوح لإبراهيم وموسى وداود بوطن لبني إسرائيل باعتبارهم "شعب الله المختار"، فكان ملكياً أكثر من الملك، أو ربما صهيونياً أكثر من هرتزل نفسه. ثم خلط الأسطورة الدينية بمسحة عاطفية خيالية عندما صوّ?Zر مشهداً لآخر جندي بريطاني يرحل عن القدس وهو يقف أمام مبنى المدينة القديمة، ويطرق باب أحد الحاخامات، ويسلمه قطعة من الحديد لم تكن سوى مفتاح القدس الذي تسلمه اليهود للمرة الأولى منذ ثمانية عشر قرناً! ارتعشت يد الحاخام وقدم صلواته شكراً لله وقال لمن حمل إليه المفتاح إنه يقبله باسم شعبه! ولم يفت بوش أن يطابق بين طريقة تأسيس بلاده وإسرائيل، فأولئك الذين أسسوا الولايات المتحدة رأوا "أرض ميعاد أخرى"، ومنحوا بعضاً من مدنهم أسماء مثل بيت لحم، ومع الوقت أصبح كثير من الأميركيين دعاة متحمسين للدولة اليهودية، ولذا لم يكن غريباً اعتباره الصداقة الأميركية- الإسرائيلية مؤسسة على "الروح المشتركة لشعبينا".

لقد رفع بوش من شأن دولة إسرائيل على نحو شديد الفجاجة، فإسرائيل قد أسست منذ إقامتها نظاماً ديمقراطياً مزدهراً، ومجتمعاً منفتحاً حديثاً مبنياً على الحب والحرية ولذلك اعتبر -أي الرئيس الأميركي- أنه من المخزي أن تصدر الأمم المتحدة قرارات روتينية بخصوص حقوق الإنسان لإدانة الدولة الأكثر حرية وديمقراطية في الشرق الأوسط، وكان هذا أساس صياغة التحالف الإسرائيلي- الأميركي الذي لا ينكسر، وهي دولة تعمل بجد من أجل السلام وتحارب بشراسة من أجل الحرية، وهي تمثل الروح الرائدة التي صنعت ثورة تكنولوجية وفرت لها موارد أكثر قيمة من البترول والذهب.

وبرر بوش كافة المواقف الإسرائيلية التي عرض لها في خطابه دون تحفظ، فكل من يقاوم إسرائيل "إرهابي" يجب القضاء عليه، وإسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، وألا يتم إجبارها على التفاوض مع هؤلاء "الإرهابيين" الذين يهددون بتدميرها، وإذا تفاقم الخطر على إسرائيل ليعلم شعبها أن الشعب الأميركي سيقف إلى جواره بحزم، فأي حديث يشير إليه البعض بخصوص توقف الدعم الأميركي لإسرائيل تجنباً للمشاكل مع غيرها ينبع من منطق سقيم، ولذلك فإن شعب إسرائيل لدى مواجهته الإرهاب لن يكون سبعة ملايين فقط، وإنما ثلاثمائة وسبعة ملايين، لأن الشعب الأميركي سيكون إلى جواره.

وهكذا قدم بوش رؤية شوهاء للحل تقوم على نشر الديمقراطية في المنطقة، لأن القادة الذين يخضعون لمساءلة شعوبهم لن يتورطوا في مواجهات لا نهاية لها، وأجيال الشباب التي ستحيا في مجتمعات ديمقراطية سوف تجد نفسها أبعد عن تبني الأفكار الراديكالية، وروابط الدبلوماسية والسياحة والتجارة سوف تعزز من السلام، ناهيك عن قيم العدالة والتسامح والحرية. وللأمانة فقد أضاف إلى مقومات السلام فكرته الغامضة عن دولة فلسطينية ديمقراطية يحكمها القانون وتحترم حقوق الإنسان وترفض الإرهاب، دونما أي ذكر للقضايا المعقدة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وكيفية حلها ولو من باب ذكر الخطوط العريضة لهذا الحل. وفي هذا الإطار سوف تُهز?Zم "القاعدة" و"حزب الله" و"حماس"، وتصبح سوريا وإيران دولتين مسالمتين، وتستطيع إسرائيل أن تحتفل بعيدها العشرين بعد المئة.

نشأت إسرائيل إذن وفق وعد إلهي دون ذكر الأساليب الإجرامية التي اتبعت في تأسيسها، وأقامت نموذجاً ديمقراطياً دون إشارة إلى نفي حقوق الآخرين ومحاولة اجتثاثهم، وكل من يقاومها "إرهابي" يجب محوُه، مع أن حق المقاومة مشروع في القانون الدولي، وما أبعد الشقة بين "الإرهاب" والمقاومة! وعقدة حل الصراع تكمن في أننا نحن العرب غير ديمقراطيين، ولذلك فإن قادتنا يتورطون في مواجهات دموية مع إسرائيل لأن شعوبهم لا تحاسبهم، مع أن معظم قادتنا يتصالحون مع إسرائيل أو يهادنونها فيما تضغط شعوبهم من أجل مواقف أكثر صلابة تعيد الحقوق لأصحابها.

لاشك أن المناسبة قد مارست تأثيرها فجاء الخطاب فجاً على هذا النحو، ولا ريب أيضاً في أن عيني بوش كانتا مركزتين على الساحة السياسية الأميركية حيث تدور بعد شهور معركة الرئاسة التي يتمنى أن يخلفه بعدها جون ماكين الذي ستكون ولايته حال فوزه ولاية ثالثة لبوش كما يقولون، لكن المرء لا يمكنه أن يتجاهل أن الخطاب يعبر في الوقت نفسه عن المضمون والمزاج الجديدين للسياسة الأميركية في ظل بوش الابن. ومع ذلك فإن خطاباً على هذا النحو لا يمكن تفسيره بعوامل إسرائيلية وأميركية فقط، فما كان بوش ليقول ما قاله لولا يقينه بأن مواقفه سوف تمر دون أن تسبب لمصالح بلاده أي ضرر، فها هو يخرج من إسرائيل ليطوف بدول مع أن تلميحاته السلبية بخصوصها في خطابه لا تخفى على أحد، ويلتقي بمسؤولين فلسطينيين ما زالوا يتصورون أن الحل يمكن أن يأتي عن طريقه، ويردد دون كلل تلك المقولة الفاقدة لأي أساس علمي عن حل يأتينا في شهور مع أنه استعصى علينا عقوداً من الزمن.

تنبأ بوش بطول البقاء لإسرائيل حتى تحتفل بالعيد المئة والعشرين لتأسيسها، وهذه مدة غير كافية لإنقاذ إسرائيل من هذه المفارقة التاريخية التي تعيشها، وهي أنها لا تعدو أن تكون حالة استعمار استيطاني شرس في زمن توارت فيه هذه الظاهرة. لقد عاشت الممالك الاستعمارية التي تسترت وراء الصليب في المشرق العربي ثلاثة أمثال العمر الحالي لإسرائيل تقريباً، لكنها انتهت إلى زوال لأنها كانت كيانات دخيلة أخفقت في أن تصبح جزءاً من نسيج المنطقة. وما لم تتخل إسرائيل عن هذه الخزعبلات التي عبر عنها بوش باقتدار في خطابه، وتعترف بأن هناك حقوقاً للآخرين ينبغي الوفاء بها، فلن يختلف مصيرها عما آلت إليه كافة الكيانات الاستعمارية السابقة عليها، مهما بدا الآن من ضعف مؤقت لحركة التحرر الفلسطيني وظهيرها العربي.
*نقلاً عن صحيفة "الإتحاد" الإماراتية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد