اربعة ايتام من البصرة يعيشون حياة بائسة في جبل النصر

mainThumb

14-12-2007 12:00 AM

 

السوسنة - يأتي نخيل البصرة ، وقد انحنت قامته ، فأقول له لا تحنً قامتك ، ان الله معك. يأتي نخيل البصرة ، وقد تبلل بالندى ، استيقظ من غفوة السنوات القليلة ، وجاء وقد انحنت قامته ، وارتوت عروقه ، من دم سفكه القتلة والمجرمون ، يشتكي الي..يقول..هل انا من شرفت شفتي من دجلة والفرات ، هل انا من زرعتني "يد علي بن ابي طالب"ورعتني دعوات "ابوحنيفة"وسقتني صلوات استسقاء الامام زين العابدين ، وشطحات احمد الرفاعي ، وعبدالقادر الكيلاني ، وراقبتني عيون موسى الكاظم ، من خلف الغيب ، وبسر الغيب ، هل انا..مازلت انا؟...يسألني نخيل البصرة ، وقد انحنت قامته ، من الرحلة والارتحال.

هذه المرة..هذه المرة ، لم نذهب الى بيت من بيوت الفقر والحاجة ، مثل كل مرة في سلسلة "حكايات لايعرفها احد"بل جاء الي نخيل البصرة ، ذات فجر ، حين كان ومازال قرآن الفجر مشهودا ، ليسأل عن عائلة من البصرة تعيش في عمان ، جاء وقد انحنت قامته ، فقلت له ، ..أوينحني نخل العراق؟وهل نخل العراق ، ولد لينحني ، وهل اذا انحنى نخل العراق ، فما بال بقية النخل في ارض العرب ، ...لم يجبني ، الا بصمت غريب ، سمعت خلاله ، هدير دجلة والفرات ، وهو يغسل عروق النخل ، من دم الشهداء والقتلى والجرحى والمظلومين ، في ارض العراق ، وتأخذني اللحظة الى الكوفة ، فأشرب من بئر علي كرم الله وجهه ، في بيته في الكوفة ، وأغسل وجهي ، من ألم العراق ، وأعود الى "بشر الحافي"أطرق بابه.....فيردني الى الحلاج ، الذي ما زال يصيح صيحته المشهورة"ركعتان في العشق لايصح وضوؤهما الا بالدم"....فأسال الحلاج....ألم ينتهً وضوؤك ياهذا؟...ألم يأت اوان ان يرتاح العراق ، وشعب العراق ، واهل العراق.

يأتي "نخل البصرة"ليروي الي حكاية ايتام من العراق ، يعيشون في عمان في ظل وضع صعب جدا ، لايقبله المرء ، لأي كان ، ولتثور الاسئلة ، عن حق العراقيين ، وحقوقهم ، فالعراق لم يترك عربيا ساعة عسرة ، حتى في سنين حصارهم ، لم يتركوا عربيا ، قسموا رغيف خبزهم ، وشربة الماء ، ونفطهم ، لنرى كيف يعيش العراقيون اليوم ، في عالم العرب ، وكيف تتوتر منهم الحدود ، في كل دول العرب ، وكيف لا يجدون رغيف يومهم ، وكيف يحدجهم الناس ، بنظرات الظلم ، وقد نسي هؤلاء ، كيف مد العراق ، بساطه ، ذات يومه ، ليجلس عليه كل العرب ، وكيف فاض دجلة والفرات ، على نفسيهما ، فكانا "ماء باردا وشراب" ، وكيف جاد نخل العراق ، على فقراء العرب ، من سر الامهات المحتاجات ، سر"وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا".... جاد نخل العراق ، على كل العرب ، وتدمع عيونه ، حين يرى اليوم ، كيف ان معاجن العراقيين ، خلت من الخبز ، في زمن عسرتهم ، وحين يحتاج الشعب العراقي ، وهو اغنى شعب عربي ، فأرضه ارض الماء والزرع والنفط ، وتلك هي محنة اللحظة التي يعبرها العراقيون ، حين تكون النعمة موجودة ، غير ان القتل ، يخطف النعمة من مرقدها الطاهر المطهر.

يأتي" نخل البصرة" ومعه أئمة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقادة الاسلام ، وملوك الحرف العربي ، وسدنة اللغة العربية ، وكل من جادت بهم ارض العراق ، عبر تاريخ طويل ، ليسألوا بلسان واحد ، عن حق كل عراقي ، في هذه الدنيا ، وعن قيمة الوفاء لشعب العراق ، حين اعطى في ساعة حربه وساعة سلامه ، وحين جاد ساعة يسره ، وساعة عسره ، فأي وفاء هذا ، ونحن نرى بيننا من العراقيين ، من هو محتاج ، برغم انه في ارضه وبلده..ليس غريبا ، ولا وافدا ، ولاضيفا ، انه في ارضه ، وبين اهله ، وفي بيته ، وهو العراق الذي زرع ابناءه شهداء ، لايموتون ، لاجل فلسطين ، ايضا ، ولأجل العرب ، وهو ايضا العراق ، الذي ، تعلم في جامعاته ، نصف العرب ، فجاء الحرف عراقيا ، شاء من شاء وأبى من أبى.

ايتام في جبل النصر

هذه المرة ، ولت "حكايات لايعرفها احد"قبلتها نحو قبلة ترضاها الى بيت عراقي ، في جبل النصر ، في عمان ، بيت ايتام يعيش فيه اربعة ايتام ، من البصرة ، والدهم الذي قتل ساعة غدر في بغداد ، عام 2004 ، رحل مثل عشرات آلاف العراقيين ، الذين يرحلون ، كل عام ، منذ الف عام ، وكأن ارض العراق ، تستسقي الدم ، لسبب مجهول ، لا يعلم به الا الله ، وكل هذا الحزن العراقي ، في الشعر واللغة والصوت العراقي ، لم يأت نتاج يوم واحد ، انه الحزن الموروث ، جيلا بعد جيل ، انه الحزن الذي يشربه الناس ، من النهر الذي لايريد ان يكشف سر الحزن ، في باطنه ، ولا يريد ان يقول ، لماذا يستسقي نخيل العراق ، كل هذا الدم ، وجوه العراقيين الحزينة؟هي ذات الوجوه التي رسمها المكان ، على من ولدوا فيه ، منذ الف عام ، او اكثر ، على الرغم ، من ان شعب العراق لا يستحق كل هذا ، والوجوه المالحة ، في ارض العرب ، هي الجديرة بهكذا وضع ، وليس وجوه العراقيين ، التي ولدت على ارض سقتهم الكرم والرجولة ، منذ انفاسهم الاولى.

كانت الساعة تشير الى الرابعة عصرا ، وقد دخلنا في ايام ذي الحجة المباركة ، وغالبية الناس يصومون هذه الايام ، توجهت وزميلي المصور الى جبل النصر ، لزيارة بيت من بيوت الفقر والحاجة ، كان البيت عراقيا ، والعائلة من البصرة ، جنوبي العراق ، نصف ساعة استغرقت الطريق ، من الصحيفة الى جبل النصر ، ويوم الخميس ، أي قبل يومين كان صعبا ، فالطريق مزدحمة ، واليوم ، نهاية اسبوع ، حتى وصلنا ، الى عنوان البيت ، في جبل النصر. طرقت الباب ، مرت لحظات ، خلت فيها ان الزمن قد توقف ، قلبي يخفق بقوة ، فأي بيت محتاج يكون اصحابه من العراق ، يؤلمني ، قبل ان اراه ، فما هو هذا الزمن ، الذي ينشر فيه العراقيون حكاياتهم ، وصور اطفالهم؟وبرغم ان مهمتي كصحفي ، تتعامل مع كل شيئ ، الا ان وجود عائلة ايتام عراقيين ، وفقراء ، هو امر مؤلم جدا ، وفي عمان ، آلاف العائلات العراقية ، التي تعيش في ظل ظروف سيئة للغاية ، وتخفي ألمها ، خلف بوابات الستر ، فلا احد يعرف عنهم. اطلت علي "ام ليث"ام الايتام ، كانت قد ارتدت السواد في لباسها ، لست ادري لماذا تذكرت العباءة العراقية السوداء ، التي ترتديها غالبية العراقيات ، وكأن السواد قدر لامفر منه ، او انها نبوءة الحلاج التي لاتريد ان ترتفع عن الارض ، وتلتحق بصاحبها ، الذي رحل وترك لنا مقولته"ركعتان في العشق لايصح وضوؤهما الا بالدم"....سامحك الله ، ياحلاج ، حتى العشق لدى العراقيين لاينفصل عن الدم ، أكان عشقا سماويا ، ام ارضيا. دخلنا ، كان مطلع البيت مؤلما ، فمدخل البيت قديم جدا ، والبيت من داخله قديم ، ومحزن ومريع ، غرفتان ، احداهما للايتام الاربعة ، وهم ايفان وعمرها عشرون عاما وتعاني من المرض ، وبحاجة الى من يعالجها ، ليث وعمره اربع عشرة سنة ، وهو متعب ولايجد عملا ، وقد سألته فقال انه حاول العمل ومساعدة العائلة ، فاستغله اصحاب العمل ، ابشع استغلال ، من الاجر المتدني جدا ، الى اساءة المعاملة ، فلم استغرب انا ، فكلمة "الله يعطيك العافية"هي الاجر الذي ندفعه نحن لكل عراقي ، بعد ان استفدنا من عشرات المليارات التي دفعها العراق للقطاع الخاص لدينا ، وللحكومات ، وغير ذلك كثير ، ثم يأتي يحيى وهو في الثامنة من العمر ، وهدير وعمرها اثنا عشر عاما. اربعة ايتام من مدينة البصرة...تبكي السماء ، وينحني نخل العراق ، كله مرة اخرى حين تبكي الام وتقول(نعيش هنا منذ ثلاث سنوات ، لقد قتل والدهم في بغداد عام 2004 ، مع الآلاف الذين يقتلون كل يوم ودون سبب ، سوى مرورهم من مكان ما ، بالصدفة ، وقد ارتحلت بأطفالي ، حتى لايقتلوا ايضا ، في ظل هذه الظروف).

تتساقط دموعها ساخنة ، فأخال ان علي جمعها ، فلا تسقط على الارض ، تتساقط حبات اللؤلؤ ، من عيون ام ايتام عراقية وتقول..(حالتنا سيئة جدا ، فلا دخل ماليا لنا ، وايجار المنزل مع الماء والكهرباء ، هو سبعون دينارا ، ولا نجد حتى رغيف يومنا ، نتلقى مساعدة غذائية من احدى الجمعيات الخيرية ، وغيرها فلا ، حالتنا في البيت سيئة جدا..فأين هم المسلمون ؟ واين هي وصايا الرسول ، بشأن اليتيم؟وماذا افعل بأولادي في هذه الحالة؟).

تسكت الام لحظات وتشير الى ابنتها ايفان التي تعاني من مشكلة في الفك وتقول...(انها تخجل ان تخرج الى الشارع او ان تذهب أي مشوار ، وهي بحاجة الى عملية اعادة الفك الى مكانه ، ونحن لانجد دينارا لنأكل فمن اين نجد من يتبنى كلفة عمليتها ، ومن ينقذ الفتاة من وضعها الصحي والنفسي ، وهي بحاجة الى هذه العملية لدى جراح اسنان ، نظرا لخروج الاسنان بشكل بارز ، اما يحيى ابني فعمره ثماني سنوات ، وقد كان مع والده حين تم قتله ، ولدي تقارير من اطباء نفسيين ، حول تلك المأساة التي شهدها الطفل وعمره اربع سنوات ، ماذا نفعل؟ونحن لا نعرف الطعام حتى الا من يد الناس ، حتى العيد الذي اقبل ، لا نجد دينارا واحدا ، لاجله...ماذا افعل للابناء وللبنات؟من اين اشتري لهم ملابس العيد؟وانا اصلا مديونة بسبب قضايا كثيرة....اطفالي ايتام ، اين اذهب بهم؟وماذا افعل لاجلهم؟وهل تليق هذه الحياة بهم.؟هل تليق الحياة بأربعة ايتام؟واين هي المروءة ؟واين هم اهل الله؟واين هم الناس؟).

احترق قلبي ، من الام ، وبسبب وضع الاطفال ، فأي حياة هي تلك يعيشونها ، وكثيرون منا لايعرفون عن وجود هذه العائلات ، ولايعرفون ان هناك فقراء "لايسألون الناس الحافا"وقد طوتهم عفة النفس عن السؤال ، حتى وصلوا الى مرحلة لايقدرون فيها على الاستمرار. مشهد البيت من الداخل ، محزن ، فالبيت بحاجة الى مدفأة ، خصوصا ، ان المدفأة قاب قوسين او ادنى من انهيار كامل ، وغسالة الملابس قديمة جدا ، ولاتليق بعدوك ، فكيف بابن امتك ودينك ، اما الثلاجة فحدث ولاحرج ، فهي فارغة ، من كل شيئ ، والعائلة لاتعرف الفواكه او اللحم او الدجاج ، الا حين يتذكرهم الجيران او الناس ، والعائلة بلا دخل شهري ، وهي اولى بالكفالة من عائلات كثيرة ، فهي عائلة ايتام ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، ضمن الجنة لكافل اليتيم ، وفي احاديث الرسول ، اشارة الى ان صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وان الصدقة تمنع ميته السوء ، بل ان الله عز وجل في القرآن:طلب من الناس ان يقرضوه من مالهم ، وبرغم ان المال هو ماله ، الا انه طلب من الانسان ان يداينه ويقرضه قرضا حسنا ، بل وتعهد الله بأن يرد هذا القرض او الدين اضعافا مضاعفة ، وهي حالة تخلع القلب الجاحد حتى من ظلمته ، حين يرزقك الله ، مالا ، ثم يطلب منك قرضا من مال هو ماله ، بل ويرده اليك مع ارباحه ، وذلك في قول الله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة".

غادرت العائلة وانا حزين جدا ، فعلى الرغم من انني اعمل في مجال العائلات المحتاجة منذ ثماني سنوات ، الا انني كل يوم اكتشف مأساة جديدة ، لا تخطر على بال احد ، وهذه العائلة التي فقدت الوالد ساعة غدر ، لم يمكنها البعض حتى من تحصيل حق الاب ، اذ تم تزوير شهادة الوفاة ، من جانب شهود الحادث ، حماية لبعض الناس في العراق ، بأن قيل ان سبب الوفاة هو حادث سير ، وايا كان السبب ، يبقى اليتم جارفا للقلب ، قاتلا للحياة ، وسالبا للضياء من وجوه الاطفال ، ولعلكم تلاحظون في وجوه الايتام دوما ، تلك الارتسامة الغريبة للحزن ، وان هناك شيئاناقصا في حياتهم.

غادرت بيتهم ، وانا اكاد اعتذر للعراق ، ولاهل العراق ، عما يلاقونه ، وعن حقهم لدينا وفينا ، وهو حق الدين والعروبة والجيرة ، وحق سداد المعروف ، وقد سبقوا به يوما ، وكان "اصحاب الاولى"كما يقول المثل المعروف ، غادرتهم ، وانا استغفر ربي ، عن التقصير الذي نقصره ، بحق كل من هو يتيم وفقير ومسكين .

عين الله لا تنام

ايتام عراقيون ، يعانون من الفقر والحاجة ، ونقص الانفس والثمرات ، والعائلة بحاجة الى من يسدد دينها ، ومن يكفلها ، ومن يحسن ظروف حياتها ، ومن يعالج اليتيمة الكبيرة ، ومن يساعدهم على وجه العيد ، وهي عائلة ايتام تستحق الدعم ، ولاتتلقى اي مساعدة نقدية ، من احد ، وفي هذه الايام المباركة التي يتقبل الله فيها العمل الصالح ، يأتي اربعة ايتام من بصرة العراق ، والله سيرسل جنوده وجنده ، اهل الخير والبركات ، حين تنتخي بهم السماء ، وسيرسل الله بإذنه ، من هو طيب صاحب خير ، ومن في رزقه حق للسائل والمحروم ، والسعيد ، من تستجيب نفسه لفعل الخير في ايام ذي الحجة المباركة..فكيف حين يكون الخير موجها لايتام من العراق العزيز.

عنوان العائلة سيكون متاحا في حال الاتصال بـ(الدستور)التي ينحصر دورها بإعطاء عنوان العائلة لمن يرغب بمساعدتها ، ولا تتلقى الصحيفة اي مساعدات ، ولا تقوم بإيصالها ، وينحصر دورنا فقط في نشر المعاناة ، وقيام العلاقة مباشرة بين من يريد المساعدة ، والتبرع والمحتاج.

اربعة ايتام من البصرة ، لن يتركهم ، كل من فيه ذرة خير ، وذرة شرف وكرامة ، اللهم اشهد اني قد بلغت ، اللهم اشهد اني قد بلغت. اللهم اشهد اني قد بلغت.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد