هل للفلسطينيِّ ريش؟. مشاهدات حقيقيّة!

mainThumb

13-07-2023 01:07 PM

لأنّ المُشاهدة تكون عرضِيّةً/ أفقية غالبًا في التّساوي، ومهما حاوَل الكاتِب من منطلقِ ولايته التّخييلية على ما وراءَ الصّورة أن يتوهّم رأسيّة مشاهداته لن يستطيع. في هذا الموقفِ حتمًا لن يستطيع. وهي مشاهِدُ، ليسَ لأنّني شاهدتها فقط؛ بل لأنّني رسمتُها في رأسي، ثمّ كتبتُها في رأسي، وهذه "إعادة كتابةٍ" تشبهُ ترجمةً من نوعٍ ما.
في السّاحة المغلقة المخصّصة لانتظار أهالي الأسرى، يتكوّم الجميع بانتظار أن يُنادى عليهم ليروا أقاربهم دقيقةً أو أقل، بعد أنْ اجتازوا سِتّ (معّاطاتْ) دائريّة، وثلاثة أبواب، وماكينتي تفتيش، وتفتيشٍ يدويّ مُذِل. و"المعّاطة" مصطلحٌ فلسطينيٌّ يطلقُ على البوّابة الدائريّة التي تسمح بمرورٍ شخصٍ واحدٍ فقط، والتي يستخدمها الاحتلال في نقاط العبور والتفتيش والجسور ومداخِل السّجون، وفي البدءِ هي اسمٌ للآلةِ التي تقتلعُ ريشَ الدّجاج بعدَ ذبحه، ما هذه الكناية؟، هل للفلسطينيِّ ريش؟، ربّما.. هل هو ريشُ دجاجٍ أم نعام أم طواوييس؟ لا أعرف.. ما أعرفه أنّ الفلسطينيّ "يسقُطُ وجهُهُ" في هذه الرّحلة الطّويلة، وأستعيرُ من وصفِ سفر التّكوين وجهَ قايين/ قابيل، بدون استعارة الشَّبَه إطلاقًا. وبعدَ أن يتجمّع الكُلّ في السّاحة المغلقة، و"الاجتماعُ حدثٌ موقوتٌ بينَ تَشَتُّتين" يقول عبد الفتّاح كيليطو، يُصبحُ مستحيلًا أن تكون مشاهدتك رأسيّة، ولا مجالَ للتّخييل لأنّ الحقيقية فانتازيّة وكافية، ولأنّ مجنّد الاحتلال نادى في السّماعة قبل أن تَدْخُل: "كالعادة الهويّة والدخان والمصاري بس والباقي يضل برّة، لا تلفون لا ورقة لا قلم"، تسأل سيّدة بصوت مرتفع: "التّلفون فهمنا، شو دخل الورقة والقلم؟"، لا يجيبها أحد بالضّرورة. الأشياءُ هناك، وهنا.. بلا إجابات. لأجل هذا؛ أقول إنّ هذه ترجمة أو إعادةُ كتابة.
في السّاحة نفسِها أنتَ خارج الوقت، واكتشفتُ أنّ الناس تخلّوا تمامًا عن ساعة اليد، أو أنّهم لا إراديًا تركوها في الخارج، وحدي كنتُ الوقتَ تلك السّاعة، هذه مبالغة سخيفة.. لكنّ الجملة كانت سقطت في رأسي. لأنّني كنتُ أحمل ساعة يدي، كلّ دقيقتين تمامًا، يسألني شخصٌ ما: "كَم صارت السّاعة؟"، وكلُّ دقيقتينِ لأنّ الوقت ثقيلٌ في الانتظار، ولأنّنا حرفيًا ليسَ خارج الوقت فقط بل خارج الزّمان والمكان، في مكانٍ مُفرغٍ محاطٍ بالزُّجاج، وفي آخِرِه "معّاطةٌ" أخرى، وعندما كنتُ خارجًا.. تسألني سيّدة: "كيفَ سنعرفُ السّاعة الآن؟"، خلعتُ ساعتي دون أن أنطِق وأعطيتُها لها، فلم تقبَل أخذَها أبدًا.. واكتَفَت بالنّظر العميق إليها.
في السّاحةِ نفسِها، يتبادَلُ النّاس قِصَصهم، وخِبراتَهم حول المحامين والسّجون والجُنون أيضًا.
في هذه المنطقة المعزولة عن العالَم، أمّهات وآباء وإخوة وأخوات وأصدقاء، يحرّكون أقدامهم بعنفٍ وتوتُّرٍ وترقُّب، وفي الهدوءِ الصّعب، يسألُ مُسِنٌ بصوتٍ مرتفع: "هوّا مطوّل الاحتلال؟". يصمت النّاسُ تمامًا؛ لأنّ مساحة الخٌذلان توسّعت.. ولأنّ المرحلة مهزومةٌ جدًا، ولأنّ الفلسطينيّ العاجِز أصبحَ يُحسُّ أنّه مهزومٌ.. مِن الدّاخِل رغمَ ما فيه من جسارة المواصلة الجبّارة.
في السّاحة نفسِها، ورغمَ أنّ الناس يتبادلون قِصصهم، إلّا أنّهم الأكثرُ اقتناعًا أنّ الكلام فائض عن الحاجة. قبلَ كُلِّ هذا، وفي الصّباح الباكِر، يسمع سائق التّكسي الخمسينيّ أخبارَ الصّباح في الراديو، يهزُّ رأسه ويتمتِم، فجأة يلتفِتُ إليّ: "عمّي بتعرف مظفّر النّواب؟"، "آه طبعًا"، "مرّة قال يا عم، أصبحَ الواحد يحمل في داخله ضِده، وهاد إلّي صار فينا"، وسَكَتَ وسَكَتُّ.. ولم يكن ينتظِرُ منّي جوابًا.. ولم يكُن لديّ طاقةٌ إطلاقًا لأنْ أقولَ لهُ إنّ مظفر هو الشّاعرُ الوحيدُ الذي بكيتُ عليه حينَ مات.. وأنّه.. "قتلتنا الرّدةُ.. إنّ الواحد منّا يحمل في الداخِل ضدّه".
الخُروج من كمِّ البواباتِ ذلك، والطّريق الطويل المحاطِ بالمكعّبات الإسمنتيّة، يجعلُكَ تفكّر في مستوياتِ هذا السِّجن الكبير. يعيشُ الفلسطينيُّ في طبقاتٍ من السّجون، هذا حرفيًا يُذكّر بفيلم: "The Platform" الإسبانيّ. ورغمَ هذا فإنّه يعيشُ استعراضًا كبيرًا.. وتمسْرُحًا عامًّا.. يغلّفه ويُغذيهِ الوهم.. الوهمُ/ الرّيش/ الذي ينهارُ تمامًا عند أصغرِ حاجِزِ أو نقطة تفتيش، فنقفُ عراةً أمامَ الحقيقةِ المرعبة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد