جينيالوجيا أشكلة النشاط الجنسي

mainThumb

08-04-2024 01:28 AM

هذا المقال هو محاولة استخراج عصارة فلسفة "فوكو" حول الجنسانية، حيث يجيب عن سؤال محوريّ وهو: كيف تم تحويل النشاط الجنسي لميدان تفكير أخلاقي؟ أي: كيف تمت أشكلة الممارسة الجنسية؟.


سيتناول المقال امتدادات علاقة المرء بذاته والفضاءات التي ستحتضن هذا الامتداد العلائقي منذ العصر اليوناني الى العصر الحديث، حيث يتضمن ثلاث حقب رئيسة، فالبدء بتثمين علاقة المرء بذاته، والطابع الفرداني الذي تكتسيه الحقبة الاولى، مرورا بتثمين علاقة الفرد بالاخر حيث سيؤطر الزواج هذه العلاقة ومن ثمة الطابع الاجتماعي الذي سيميز هذه الحقبة، وصولا عند الحقبة التي ستشهد تحولا جذريا اذ سيتم تحويل الفرد لهم جماعي وهم سلطوي، حيث ستنتقل العلاقة الثنائية ومعها الممارسة الجنسية الى الدائرة العمومية ومن ثمة انتقال الرغبة الجنسية من الحيز الذاتي للحيز العمومي، واضفاء الطابع السياسي -المؤسساتي على الجنس باعتباره أحد أهم تقنيات السلطة في العصر الحديث.

ثمة تجربة متفردة في اطار علاقة الفرد بذاته في الفترة اليونانية من خلال توجيه الذات الفردية والسيطرة عليها والتحكم فيها، من اجل تحقيق التوازن بين حاجيات المرء ومتطلبات المجتمع أي تحقيق التوازن في الجسم الاجتماعي. فالانسان في التصور اليوناني لا يتسنى له تحقيق حياة فاضلة الا بالتحكم في غرائزه وأهوائه وقدرته على تحكيم عقله، وفي هذا السياق قد أدان الفكر القديم وبشكل خاص الفكر اليوناني الجسد واعتبره مدنسا، وهذا يظهر في فلسفة افلاطون حيث يقول "أن نتفلسف هو أن نتدرب على الموت"؛ والمقصود هنا هو إماتة الأهواء، حيث يعتبر أفلاطون حياة الشهوة موتا متكررا.
لقد أولى فلاسفة العصر اليوناني اهتمامًا خاصًا للذات الفردية، فقد علم "زينون" مبدأ العناية بالنفس لتلاميذه، كذلك "سيناك" يؤكد على التفرغ للنفس بمعنى الابتعاد عن الاهتمامات الخارجية، وغيرهم العديد من الفلاسفة.
ان ماتميزت به الحقبة اليونانية الرومانية حسب فوكو هو كثافة اهتمام الفرد بذاته، والهدف من توجه الفرد للاهتمام بذاته واتخاذها موضوع معرفة هو اعادة تشكيلها واصلاحها وتطهيرها لتحقيق خلاصها. لذلك يثمن فوكو العودة الى الحقبة اليونانية نظرا لما يميزها من قدرة على اكتشاف الذات وجعل مسألة الذات الفردية موضوع تفكير وطريقة للانتصار على السلطة التي تأتي من الخارج.
وفي إطار علاقة الذات بالآخر في العصر اليوناني فيمكننا دراستها من خلال رابطة الزواج نظرا لما تتمتع به من اهمية ضمن قائمة العلاقات الإنسانية، فقد كان الزواج يندرج ضمن اطار واسع يشمل الفضاء السياسي والمنزلي، والغاية منه هي الحفاظ على المدينة والعمل على ازدهارها، فبالتالي لا يتأسس على أساس علاقة شخصية بين الطرفين او مشاعر متبادلة بينهم .. اما في الحقبة الرومانية اصبحت الاولوية للعلاقة الشخصية القائمة بين الزوجين، حيث اصبح الفلاسفة والاطباء يلحون على الوفاء المتبادل بين الازواج وتثمين الزواج والحاجة الى الوجود مع الاخر، اذ اصبح الزواج عقدا يلتزم به الطرفان يمنع كل علاقة جنسية من شأنها تهديم هذه الرابطة، ومن هنا انبثاق صلة الفرد بالآخر، فقد اصبح تكثيف الاهتمام بالذات و اعطاء القيمة للاخر متلازمين يسيران في اتجاه واحد .
ان ملاحظة ماتقدم جعلنا نعقد العزم على انه ثمة نقلة نوعية في علاقة الفرد بذاته من انطوائه على نفسه وصب كل الاهتمام عليها الى تدعيم علاقته بالاخر بعد ان تبين انه كائن ثنائي بطبعه ، مما أدى الى ترابط وثيق بين الزواج وأبعاده الاجتماعية وبين سمو مكانة الفرد داخل المجتمع، و من هنا تمت صياغة وتشكيل فن عيش جديد.
بالعودة للفكر اليوناني الكلاسيكي فلم يكن هناك ربط بين الزواج وموضوعات اللذة والحب (إيروس)، أي لم يكن التفكير في المتعة الجنسية من منطلق العلاقة بين الانثى والذكر، بل كان الربط قائما بين الايروس والعلاقة المثلية، حيث بلغ الشذوذ الجنسي قمة ازدهاره على ايدي الاغريق وقد ذهب بعضهم الى ان الاغريق كانوا يعتبرون المثلية وساما يتفاخرون به. بل الاكثر من ذلك لم تكن تعتبر الخيانة الزوجية في اليونان مخالفة قانونية الا في الحالة التي تكون فيها الزوجة هي الخائنة كونها ملكا للرجل.
أما التفكير في الممارسة الجنسية وتشكيلها كميدان اخلاقي في الفكر اليوناني الكلاسيكي فإنه ينحصر في عنصرين اولهما : "الافروديسا" اي افعال ارادتها الطبيعة وربطتها بمتعة قوية ودائما تنزع نحو الافراط والتمرد، ثم "المبدأ "الذي ينبغي ان ينظم هذا النشاط وهو نمط الاخضاع من خلال السيطرة على الذات، وهذا المبدأ يتعلق بالمهارة والمعرفة، لا علاقة له ببنية قانونية او سلطوية، اي ان التفكير الاخلاقي للعصر القديم بخصوص المتع لا يتجه نحو تقنين الافعال انما نحو تهذيب السلوك والسمو بالفرد وصياغة جمالية للوجود.
كما أشرنا آنفا ان السلوك الجنسي للزوجين لم يكن يتشكل في التفكير اليوناني بالانطلاق من علاقتهما الشخصية، بل كان يتعلق بإنجاب الاطفال، فبالتالي لم تكن حياتهما الجنسية المشتركة موضوع تفكير، فنقطة الاشكلة كانت في الاعتدال الذي كان ينبغي ان يبرهن عليه كل واحد من الزوجين، و قد حاولوا ضمان هذا الاعتدال من خلال الحمية الجنسية ، فقد كان الاعتناء بتحديد السن الملائم للزواج والانجاب.. والفصل الملائم لممارسة العلاقات الجنسية ...الا انه لم يكن يقال ابدا كما سيفعل الموجه المسيحي الحركات التي ينبغي القيام بها او تجنبها مثل المداعبات المباحة والاوضاع...
ان المكان المخصص للحمية المرتبطة بالنشاط الجنسي في العصر اليوناني محدود بالقياس مع الحميات الاخرى مثل الحمية الغذائية. فهناك سمة مشتركة تجمع الطب اليوناني والروماني وهي انه يتم منح مكان أكبر لحمية التغذية منه لحمية الجنس، وهذا ماسينقلب في الحقبة المسيحية حيث سيبدأ الانشغال بالجنس أكثر من الانشغال بالغداء.
بعبارة وجيزة وشاملة يمكننا القول ان الاشكلة الاخلاقية للنشاط الجنسي في التفكير اليوناني الكلاسيكي كانت تتم بطريقة مشابهة للاشكلة الاخلاقية للغذاء والشراب، على اعتبار ان كل هذه المتع (الغذاء والشراب والجنس) تنزع دائما ان تكون مفرطة بطبيعتها وبالتالي يجب السيطرة عليها، لئلا يصبح الفرد عبدا لها.

فياترى ماهو التغيير الذي سيحصل بخصوص أشكلة النشاط الجنسي في الحقبة المسيحية؟

ثمة صرامة شديدة في فكر الفلاسفة والاطباء خلال القرنين الاولين للمسيحية حول استعمال المتع الجنسية، فقد تمت اشكلة قوية للافروديسا، فدعونا نكتشف كيف تم ذلك ولماذا؟
بهذه الحقبة بدأ تدخل قوي في المتع الجنسية، وكما لا يخفى علينا ان الكنيسة في الحقبة المسيحية كانت تبلغ أوج قوتها وسيطرتها على الشعوب، ولا ضير من إشارة وجيزة في هذا السياق الى انه بسنة 529 م تم اقفال اكاديمية افلاطون من طرف الكنيسة، كما تم ظهور أمر منح البركة الذي اعتبر أول قانون كهنوتي، ومنذئذ سيطر الكهنة على التعليم والفكر والفلسفة...وكل المجالات، وفي نهاية القرن الرابع اعتبر البابا الناطق الرسمي باسم يسوع على الارض، ولم يكن احد يتجرأ على التمرد على سلطة الكنيسة طيلة القرون الوسطى، فلن نجانب الصواب ولن نبتدع جديدا اذا قلنا ان الكنيسة كانت هي الإله الإنساني الآمر والناهي، ويد سلطتها كانت تطال كل المجالات.
كانت المسيحية تعتبر الملذات الجسدية قوة غريبة عن الانسان، وترى في الرغبة الجنسية نوعا من الغواية الشيطانية، كما ربطت الممارسة الجنسية بالشر والخطيئة والسقوط والموت، الا انها قد قبلته في حالة واحدة فقط وهي الزواج الاحادي بهدف الانجاب، وقد كان الهدف المزعوم من هذا التشديد حول الممارسة الجنسية هو الحفاظ على طهارة الانسان لاسيما اثناء اداء الفرائض الدينية.
لم يكن الزواج لا في اليونان ولا في روما يستدعي تدخل السلطات العمومية، لكن الزواج سيأخذ تدريجيا في العالم الهلنستي مكانه داخل الدائرة العمومية وذلك من خلال اللجوء للاحتفالات الدينية التي كانت تستخدم نوعا ما كوسيط بين الفعل الخصوصي والمؤسسة العمومية.
ان قانون الخيانة الزوجية هو احد تجليات هذا التحول وهذه الطفرة؛ حيث نُقل للسلطة العمومية عقوبة كانت من اختصاص السلطة العائلية وهكذا أدرجت الالتزامات القانونية في عقود الزواج في حياة الزوجين، ومن هنا اضفاء الطابع المؤسساتي على الزواج ونقله من المجال الخاص لدائرة العمومية ليصبح من مشمولات نظام الدولة، وتأسيسا على هذا اصبحت الممارسة الزوجية تبحث عن ضماناتها في جهة السلطة العمومية.

كيف تمت أشكلة النشاط الجنسي في العصر الحديث؟

إنّ أهم ما تميزت به القرون الثلاثة الاخيرة حسب فوكو هو تكاثر الخطابات حول الجنس، وقد تمثلت هذه الخطابات في توجيهات شتى، حيث شهدت الثقافة الغربية منذ العصر الوسيط انتشار تقنيات الاعتراف التي يتمحور موضوعها حول الشهوة وهدفها حول التوبة.
إنّ مشروع تخطيب الجنس قد تكون منذ زمن بعيد في سياق نسكي ورهباني محدد تحديدا في العصر المسيحي، حيث تعد تقاليد الاعتراف المسيحية فنا من فنون العيادة النفسية تهدف الى مطاردة النفس تحت شعار "يجب ان نقول كل شيء". هذا الطقس يعمل كنموذج تربوي وارشادي لخلق نمط انساني لا يقوم على الطاعة فحسب وانما على الاعتراف بدافع ضرورة اظهار حقيقة المشاعر الخبيثة في النفس.
وُظفت هذه الطقوس من اجل قمع الانحرافات الجنسية للأفراد، كما سُخرت من اجل مزيد من السيطرة على الذات الانسانية، بيد ان القرن 17 عمّم طقس الاعتراف على سواد الناس، هكذا انتقلت هذه الطقوس في القرون الاخيرة من الحيز الديني لتصبح احدى التقنيات المنتجة للحقيقة عبر العديد من المؤسسات والممارسات اليومية فامتد هذا الطقس لمجالات متعددة مثل الادب والفلسفة.
من المعلوم ان كل نظام سياسي يسخر تقنيات معينة تتماشى مع طبيعته وتصوراته وتوجهاته..اذا اتفقنا على هذا جاز لنا القول ان ظاهرة القمع الحديث للجنس بالقرن 17 قد تمخضت عن النظام البورجوازي والنمو الرأسمالي، حيث انتقل التاريخ البسيط والتافه للجنس الى تاريخ رسمي مدروس ، اذ عملت السلطة منذ ق 17 على تدعيم تمركزها في جسد الفرد من خلال تطويعه، فأضحت تنسج خيوط سلطتها في كل مكان مستهدفة الفرد باعتباره النواة الاولى للمجتمع، لقد تم اختراق الجسد الانساني من خلال شبكة من الاغراءات والمؤسسات كالفحص الطبي والمتابعة النفسية والعلاقات البيداغوجية والمراقبات الاسرية، فقد كانت مسألة الجنس تتطور حسب ثلاثة محاور ؛ محور البيداغوجيا مع جنسانية الطفل، محور الطب مع الفيزيولوجيا الجنسية الخاصة بالنساء ، ثم محور الديموغرافيا من اجل تنظيم الولادات.
يرى فوكو ان كل العلوم والتحليلات ذات الصلة بعلم النفس لها دور في هذا الانقلاب التاريخي في عمليات التخصيص، اذ اصبح الانسان موضوعا للعلوم الانسانية والاجتماعية الغربية كعلم النفس والاقتصاد والسكان والاحياء وعلم الاجرام.
ومن ثمة لن نذيع سرا إذا قلنا انه قد تم ترحيل تقنيات تدجين الذات وترويضها من الكنيسة الى بقية اجهزة الدولة التعليمية والتربوية والعقابية.
يفضي بنا ماتقدم الى التأكيد على التحول الجذري في استراتيجيات السلطة، حيث تحولت من سلطة تبيح الموت لسلطة تمجد الحياة، اذ لم يعد همها الموت بل الاستثمار في الحياة.
من المتفق عليه قديما ان قوة وغنى البلد تتعلق بكثرة السكان، لكن سياسة العصر الحديث ستحذو حذوا مغايرا، اذ ستقر ان مستقبلها وثروتها ترتبطان ارتباطا وثيقا بالكيفية التي يستعمل بها كل واحد جنسه، ومن هنا تشكيل وصياغة تقنيات واستراتيجيات جديدة، والتركيز على الجنس وتسييجه وحصاره.
فقد كانت احدى المستجدات الكبرى في تقنيات السلطة بالقرن 18 هي ظهور الساكنة كمشكلة اقتصادية وسياسية وفي قلب هذا المشكل الاقتصادي والسياسي يوجد الجنس. من هنا قامت الدولة بتبني تقنيات الاعتراف لا من المنطلق الديني المرتبط بالخطيئة بل من منطلق الدراسات الطبية والاقتصادية والتربوية التي تقضي بفهم السكان والحياة الجنسية للافراد كونها قضية تخص الثروة القومية وقوة المجتمع والدولة.
لقد تعاضد العامل التقني بالاقتصادي والسياسي خلال ق 18م من اجل التحفيز على الكلام عن الجنس ،ولكن ليس في شكل نظرية عامة للجنسانية، وانما في شكل تحليل ومحاسبة وتصنيف وتخصيص عبر بحوث كمية اوسببية .
ان اهم التحولات التي شهدها القرن 18م تتمثل في فصل الطب الجنسي عن الطب العام ، كما ان تحليل الوراثة حمّل المسؤولية البيولوجية للجنس، ففي مقدورنا القول من دون خشية المبالغة انهم صيروا الجنس خطرا يهدد البشر اذا لم يخضع للمراقبة، هكذا اصبح المشروع الطبي_السياسي يلعب وظيفة تسيير العلاقات الزوجية وتسيير الجنس والتحكم في خصوبته، ولعل أقوى دليل على هذا هو ظهور طب الانحرافات وبرامج تحسين النسل.
قد تراجعت حدة المدونات الخاصة بالجنح الجنسية وخفت صرامتها بشكل هائل في القرن 19، كما ان القضاء قد تنازل غالبا عن مهامه لصالح الطب، اما تدخل الكنيسة في الجنسانية الزوجية قد فقد الكثير من ملحاحيته وقساوته، فقد تخلى القضاء والكنسية عن مهامهما لصالح الطب الذي بدأ يتدخل بقوة في متع الزوجين ،حيث اخترع جملة من الامراض التي قد تتولد عن ممارسات جنسية غير كاملة، كما نشط خطابات الجنس من خلال امراض الاعصاب والطب العقلي والبحث في الاستمناء والرغبة غير المتحققة ثم الاستيلاء على ميدان الشذوذات الجنسية الذي شكل نقطة محورية سنتفصل فيه بعد قليل. فالمسألة كانت تتعلق بالقانون والعقاب والان أصبحت ترتبط بالطب والترويض.
قد كان للزوج ذو جنسانية منتظمة خلال ق 18 و 19 م الحق في التكتم والسرية، بالمقابل كانت تتم مساءلة جنسانية الاطفال والمجانين والمجرمين.
فبالنسبة للاطفال قد حارب المربون والاطباء بشدة استمناء هذه الفئة كمرض يجب القضاء عليه ، كما وُضعت اجهزة للحراسة وكمائن للمراقبة وللاجبار على الاعتراف وفرضت خطابات تصحيحية ، بالاضافة لزرع الشك في نفوس الاباء بان الاطفال مذنبون، قد تم ارساء نظام طبي جنسي كامل على الفضاء الاسروي ، وهكذا اقيمت حول الطفل خطوط لاختراق لا محدود، فقد تكاثرت وانتشرت ادبيات كاملة من الارشادات والتوجيهات والنصائح الاخلاقية..حول التلميذ، لقد صار جنس الاخير لاسيما جنس المراهقين بصفة عامة مشكلة عمومية .
يسمي فوكو المجتمع البورجوازي للقرن 19 بمجتمع الشذوذ الساطع والمنفجر، حيث انتج هذا المجتمع نظاما مرضيا وشاذا للغريزة الجنسية، لان السلطة في القرن 19 لم تضع حدودا للجنسانية بل عملت على تكثير الجنسانيات المختلفة وتمديد اشكالها المتنوعة، والعمل على ضمها الى الجسد كنمط لتخصيص الافراد وتفريدهم ، انها تنتج وتثبت المتباين الجنسي.
ان تزايد الشذوذات انما هو نتاج لتدخل نوع من السلطة على الاجساد ومتعها ، حيث تستمد السلطة قوتها واتساع أفضية انتشارها وامتدادها بتكاثر الجنسانيات وانتاجها وتثبيت المتباين الجنسي، حيث تمنح كل واحدة من هذه الجنسانيات المختلفة فضاء لتدخل السلطة.
وبذلك اصبحت اللواطة بالقرن 19م صورة من صور الجنسانية ،وأضحى اللوطي حالة متفردة لها خصائصها المميزة، لها ماض وتاريخ وطفولة ونمط حياة وشكل خارجي ، فهذه الجنسانية تدرس على اساس انها جزء من جوهر اللوطي وطبيعته وليس على أساس انها خطيئة.
قد عملت السلطة مسخرة عدة وسائط في تكثير تصنيفات الشذوذ الجنسي وتمطيطها وصياغة اسماء منمقة لها، انها مصممة على تأصيل المتباين الجنسي في الاجساد ودسه تحت التصرفات لكي يصبح مبدءا للتصنيف.
لقد بين فوكو ان ماتميز به القرن 19 م هو ظاهرة الانحراف المتفجر مما ادى لإرساء سلطة تمارس على الجسد والجنس رقابة مستمرة تعمل على تمييز الجنسانيات المنحرفة وملاحقتها .
لقد تم خلال القرن 19 تعميم مركب الجنسانية، فبعدما كان مرتبطا بالطبقة البورجوازية سينتقل تدريجيا للطبقة البروليتارية، بعدما كان الانشغال بجسدها وجنسها في النصف الاول من ق 19 مستبعدا جدا ، فلكي تصبح البروليتاريا ذات جسد وجنسانية ولكي تطرح صحتها وجنسها وتوالدها واعادة انتاجها مشكلا كان ينبغي ان تنفجر صراعات معينة ( التساكن، التلوث، الاوبئة..) ، وكان ينبغي ان تقوم استعجالات اقتصادية ( تطور الصناعة الثقيلة ،حاجة اليد العاملة،اجبارية مراقبة تدفقات السكان..) ،واخيرا كان ينبغي اقامة استراتيجية كاملة للمراقبة تسمح ببقاء هذا الجسد وهذه الجنسانية التي اعترف لهم بها اخيرا تحت الحراسة.
بما ان الجنسانية أصليا وتاريخيا بورجوازية حسب فوكو ففي نهاية ق 19 م ستحاول البورجوازية ان تعيد فرض تميزها وتفردها امام جنسانية الاخرين واختلافها عنهم ، فالمحظور هو الذي سيقيم الفرق.
فمن الخطاب الذي كان يقول في نهاية ق 18 " في داخلنا عنصرثمين علينا ان نخشاه ونصونه ونمنحه كل عنايتنا لكي لا تولد مصائب"، انتقلنا الى خطاب "ان جنسانيتنا خاضعة بخلاف جنسانية الاخرين لنظام من القمع قوي جدا واذا كان يحمل معه كل هذه المخاطر فلأننا أصمتناه لزمن طويل".
ومن هنا ستبدأ آليات القمع في التراخي وستبدأ حدتها في التراجع وصرامتها في الفتور وقساوتها في التواني.
اذن ثمة محطتان فاصلتان في تاريخ القمع الحديث للجنس، المحطة الاولى بالقرن 17 و ترتبط بميلاد التحريمات الكبرى، و تثمين الجنسانية الراشدة والزوجية فقط، و اقتضاءات الاحتشام والتجنب الواجب للجسد.
أما المحطة الثانية بالقرن 20 وتتمظهر في تراخي آليات القمع، والانتقال من محظورات جنسية ملحة الى تساهل نسبي حيال العلاقة ماقبل الزواجية او خارجها، علاوة على فقدان احتقار الشواذ حدته، وتراجع العقوبات القانونية المرتبطة به نسبيا ، علاوة على رفع جزء كبير من الطابوهات حول جنسانية الاطفال.
إن الحقيقة التي تم نشرها عبر آليات الاعتراف التي تدفع الافراد لانتاج خطاب حول رغباتهم لاسيما الجنسية منها ليست حقيقة بريئة، حيث أبرز فوكو التواطؤ بين السلطة والحقيقة نظرا للتحريض القوي والحث الملح من طرف السلطة على انتاج الحقائق المتعلقة بالرغبة الجنسية ،حيث انتقلت هذه الاخيرة من الحيز الذاتي للحيز العمومي بعدما اصبحت الحقيقة مطلبا جماعيا.
إنّ هذه الآليات السلطوية التي أنتجتها الحضارة لم تؤدِ إلّا إلى قمع الأفراد بخلق سياج من المراقبة حتى تسهل عليهم عملية التحكم والاخضاع ،وبذلك نستنتج ان اهم صفة يمكن ان تتصف بها الحداثة الغربية هو سعيها الدائم الى ادارة البشرية وتوجيهها بشكل مبرمج لصالح النظام الاستهلاكي للسوق، وبذلك أصبح إنسان الحضارة العصرية مجرد الة تحت تصرف السوق الاستهلاكية وقد نتج عن ذلك مايسميه "ماركوز" الانسان ذو البعد الواحد، فما يميز انسان العصر الحديث ذا البعد الواحد هو الموافقة والاذعان وغياب عنصر الرفض، حيث يرى "ماركوز" ان تركيب المجتمع الاستهلاكي الحديث قد أخضع الفرد للاستبداد الاجتماعي كي يتمكن من تلبية حاجات الاستهلاك المتضخمة بفعل التكنولوجيا التي هي فن غزو الطبيعة والتغلب على مقاومتها عن طريق تحويل الأشياء (أشياء الطبيعة) إلى أدوات مروضة، مسيطر عليها بهدف استغلالها لأغراض اجتماعية وحضارية .
كما تحول العقل مع تقدم العلم والتقنية الى مجرد عقل ادائي حسب تعبير "هابرماس"، اذ ان مجتمع العصر الحديث هو مجتمع تحكمي قمعي تسوده العقلنة الاداتية الصارمة ويعمه التشيؤ حسب "تيودور ادورنو، حيث أدى العقل الأداتي إلى الهيمنة التقنية والسيطرة السياسية واضطهاد النزعات التلقائية المبدعة الخلاقة، و توحيد أساليب التفكير و أنماط السلوك في قوالب تشييئية جامدة.
وقبل الختام يمكن القول انه قد تم تسخير الجنس من طرف السلطة في القرون الاربعة الماضية كتقنية ووسيلة للتحكم في الأفراد وتدجينهم ضمن قوالب محددة، واختراق اجسادهم وتسجييها، فالسؤال الذي يطرح نفسه بشدة الآن، إذا لعبت تقنية الجنس هذا الدور الجوهري، وأسهمت في إخضاع الأفراد، فما مصير الإنسان اليوم في ظلّ الثورة المعلوماتية والتفشي الفاحش للتطور التقني، ما مصير التفرد والاختلاف في ظل تنميط القيم العالمية اليوم؟ وما مصير الحرية وما مصير الانسان ان كان مازال هناك "انسان"؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد