مدن الحقد - المحامي محمد ابداح

mainThumb

20-10-2014 04:38 PM

من المؤكد بأن الحقد الصهيوني التاريخي على العراق ، ثأراً لقتلاهم وأسراهم وسباياهم في بابل، ليس هو الوحيد، فتاريخ الرافدين مسلسل تاريخي طويل من الحروب الأهلية والإقليمية والدولية، وبحوراً من سفك الدماء والنهب والسلب، وجبالاً من المؤامرات والدسائس والإغتيالات والمكائد، من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه، غير ان حقد اليهود، لربما هو الأقدم تاريخياً، كما أنه ومن جهة ثانية حقدٌ شكل على مر العصور وجهة نظر دخلاء ومحتلين لم يتفهموا حقيقة مكونات الحضارة العراقية، ذات الخصوصية الدامية والمتوجة بالعديد من البيعات المهدورة، وعلى رأسها السبع بيعات، وهي بيعة الامام علي بالكوفة وبيعة طلحة والزبير في الصرة وبيعة الامام الحسن بن علي في الكوفة وبيعة معاوية بن ابي سفيان وبيعة يزيد بن معاوية وبيعة الحسين بن علي وبيعة المختار ومن ثم بيعة عبد الله بن الزبير، كل هذه البيعات تم ضربها بعرض الحائط. 
 
سأل الحسين الفرزدق: كيف خلفت الناس في الكوفة؟ فقال الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، وفيما بعد، بكى العراقييون لمقتل الملك فيصل الثاني قبل ان يعرفوا عبد الكريم قاسم وبكوا عندما قتل عبد الكريم قاسم، ونسجوا حوله الاساطير ليلطموا عليهم الى اليوم. 
 
وعلى مر التاريخ الدموي للعراق، وحده الحسين بن منصور الحلاج الذي قام بالدعوة لقاتليه، عوضا عن الدعوة عليهم، عندما ناجى ربه يوم صلبه في 26 آذار 1922م ، حيث دعى ربه قائلاً: ( ربي قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك، وتقرّبًا إليك ، فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لَما فعلوا ما فعلوا، فهل يعتبر الحلاج مسيح العراق، وهل يكفي ارض العراق مسيحا واحداً ليخلصها من الالم والمعاناة والكراهية والحقد، علماً بأن المقتدر، السلطان الذي أمر بقتل الحلاج، هو نفسه مات مذبوحاً!! 
 
ومن يبحث بتاريخ العراق جيداً سيجد بأنه يستنسخ نفسه مراراً وتكراراً ، وسيرعبه حقاً، حجم الحقد وكم الغضب الهائل والكامن بين ضفاف نهريه، وسيكتشف الباحث بأن الحب له أوجه متعددة، ولكن في العراق له وجه واحد وهو حب السلطة، كما أن الحقد في العراق له وجه أكثر بشاعة من شكل الدم البشري السائل بالطرقات، وأمر من طعم العلقم، وخصوصاً لمن من يفكّر بحكم العراق، فعليه أن يضع نصب عينيه نهايات مفجعة جداً، وشاهد ذلك مصير السابقين من حكام وزعماء العراق ، ليعرف كيف سيتصرّف بشأن العراق والعراقيين ، ولن يعرف مهما فعل، ففي النهاية سيشنق أويُسحل، أوقد يضحى به في العيد، فلا حرمة للقتل بالعراق في المناسبات الدينية وغير الدينية، ومن يحكم العراق عليه أن يتقّبل نهايته كيفما كانت ! فهو ليس أفضل ممن سبقه بالحكم أو القتل!، وعليه أن يعلم بأن نهايته كزعيم للعراق، لن تكون نهاية للعراق ، بل مجرد بداية مغامرة مثيرة أخرى لحاكم آخر.
 
وعليه فيبدو أن العراقيون اعتادوا أن لا يضعوا في ذاكرتهم وعلى امتداد تاريخهم سوى مزيداً من الحقد القاتل!، وقد يصح القول بأن العراقيين مسؤولون عما يفعلونه بأنفسهم، ولكنهم أيضاً مسؤولين عما يصنعه الآخرون بهم ، ولابدّ لنا من الإعتراف بأن هذه الظاهرة التاريخية تجلت وضوحاً بشكل لافت للنظر في القرن العشرين.
 
لقد أسس العراقيون مملكتهم في العام 1921 م، برعاية بريطانية ، وتمكنوا من الحصول على بعض الإستقرار النسبي ، ولكن نظراً لطبيعة الشخصية العراقية المتمردة، والمُحبة للسلطة والحكم، نشبت ثورة عارمة اجتاحت العراق انتهت بموت فيصل الأول على فراش سريره في مدينة برن بسويسرا عام 1933م، وقيل انه مات مسموما ، فبكاه الناس من العراقيين والعرب بكاء مرا ، وهاجت الدنيا لمصرعه وأقيمت التأبينات ونظمت القصائد، وفي عام 1936 ، سقط أحد ابرز رجالات العراق، الفريق أركان حرب جعفر العسكري ، وكان واحدا من قادة جيوش الدولة العثمانية وزميلا لمصطفى كمال أتاتورك، مات جعفر باشا مقتولا برصاص ضباط جيشه من العراقيين أنفسهم، وهو ايعدّ المؤسس الحقيقي للجيش العراقي، وذلك اثر انقلاب الفريق بكر صدقي، وبعد مضي أيام ، قتل الأخير برفقة قائد القوة الجوية محمد علي جواد في حدائق قاعدة مطار الموصل العسكرية ومن قبل احد مرتبات الجيش العراقي! وكان الحدث مؤلما أيضا بالنسبة للمجتمع العراقي، ثم كان مصرع الملك غازي الأول عام 1939 م، بحادث سيّارة مدّبر، ولم يعرف حتى اليوم سر موته، وبكى الناس على غازي ، وقبل ان ينتهي عام 1940م، قتل الوزير رستم حيدر الذي شارك بسبع وزارات على العهد الملكي، وفي عام 1941م، طمع رشيد الكيلاني بالحكم فانقلب على الحاكم، ولم ينجح فكان مصيره دموياً هو ومن معه، واعدام صلاح الدين الصبّاغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب والمحامي يونس السبعاوي. 
 
وفي ذات الوقت ، استغل الشيوعيون العراقيون إعدام زعيمهم مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد عام 1949م، فكانت لهم حجة في الوقوف ضد حاكم العراق آنذك الأمير عبد الاله ، وكان وصيّا على العرش ، وضد رئيس وزراء العراق المخضرم نوري السعيد، وإذا كانت ذكرى شنق العقداء الأربعة وصاحبهم المدني قد ترسّخت في ضمائر القوميين لمرحلة طويلة ، فأن ذكرى شنق مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي قد ترسّخت في ضمائر الشيوعيين لمرحلة أطول ، إذ لم تزل حية لدى أي شيوعي عراقي.
 
في فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 ، استيقظ العراقيون والعالم كله على اخطر حدث تاريخي غّير مسار العراق والمنطقة كلها، إذ قام انقلاب عسكري أطاح بالنظام الملكي وأعقبته مباشرة ثورة جماهيرية صاخبة سجلت فيه نهايات حكام العراق بأبشع الوسائل، ذهب ضحية ذلك الحدث على مدى يومين كل أعضاء الأسرة المالكة، على رأسها كل من الملك فيصل الثاني وخاله وولي عهده الأمير عبد الاله ، وقتل رئيس وزراء العراق الشهير نوري السعيد وتم سحله في الشارع، وسحلت جثة عبد الاله في شوارع بغداد وقطعت أوصالها ولم تجد لها قبرا ! وقتل صباح ابن نوري السعيد وسحلت جثته أيضاً ، ومعهم أبرياء قتلوا على الشبهة ! وانقسم الناس إزاء الحدث ، فبكى البعض، وفرح آخرون.
 
وفي العام 1959م، صدرت أحكام إعدام بحق العديد من رجالات العهد الملكي ، ولكن عبد الكريم قاسم لم يوّقع إلا على إعدام بعض المسؤولين المدنيين بتأثير من الحزب الشيوعي العراقي ، فصعد المشنقة سعيد قزاز ، وهو رجل عراقي قوي الشخصية ، كردي صلب من مدينة السليمانية ، وكان يشغل منصب وزير داخلية النظام الملكي عند سقوطه ، صعد المشنقة وهو يردد جملته المشهورة : (سأصعد إلى المشنقة وأرى تحت أقدامي أناس لا تستحق الحياة !) وشنق معه العديد من المسؤولين المدنيين العراقيين في سجن بغداد المركزي من دون أن يذكرهم احد، واعدم أيضا رميا بالرصاص العديد من الضباط العسكريين العراقيين الذين حُكموا بتهمة خيانة قائد الثورة عبد الكريم قاسم، وذلك بساحة أم الطبول، وفي الوقت الذي حزن البعض على المشنوقين والمعدومين كالزعيم ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ومحمود شهاب وفاضل الشكرة وعشرات غيرهم، كان الآخرون يغنون لنهاياتهم اثر محاكمات عسكرية في محكمة الشعب على أعقاب فشل أحداث الموصل ومحاولة عبد الوهاب الشواف الانقلابية في الموصل والتي ذهب ضحيتها المئات ، وفي مقدمتهم الشواف نفسه، والذي قتل وسحل في الشوارع وفشل حركته القومية بعد مصرع الزعيم الشيوعي كامل قزانجي بأيدي القوميين ، فكان أن استبيحت الموصل على مدى أيام وجرى فيها القتل والسحل والنهب على مدى أيام منذ 8 مارس 1959م، أعقبت تلك الحركة موجة اغتيالات واسعة في مدينة الموصل ، سبّبت هجرة الآلاف المؤلفة من أهلها إلى بغداد.
 
وفي صباح الجمعة 8 فبراير 1963 م، أغتيل جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية ، وكان اغتياله إشارة بدء حركة انقلابية ضد حكم قاسم، ثم قصفت وزارة الدفاع بالطائرات في قلب بغداد ، ودارت معركة ساخنة أنهت نظام الزعيم عبد الكريم قاسم اثر انقلاب دموي قام به البعثيون ، وفي اليوم الثاني سّلم الرجل نفسه لخصومه البعثيين بعد أن دافع دفاعا مستميتا، واقتيد إلى دار الإذاعة حيث أعدم برفقة ثلاثة من معاونيه في أحد استوديوهات الإذاعة ، وفي اليوم التالي السبت 9/2/63 استسلم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وكنعان حداد فصدر حكم سريع بإعدامهم ونُفذ الحكم على كراسي الموسيقيين بمبنى الإذاعة ، وبثت مشاهد الإعدام مباشرة!!.
 
ومع حدوث مجازر على مدى أيام من قبل البعثيين ضد كل من الشيوعيين والقاسميين ، وجلسات تعذيب مرعبة بحق قياديين ومسؤولين حزبيين، أمثال سلام عادل وعبد الجبار وهبي فوصل عدد القتلى لأربعة آلاف ، وكما غنت أم كلثوم مباركة في 14 تموز / يوليو 1958 ( بغداد يا قلعة الأسود )، غنّت مباركة في 8 شباط / فبراير 1963 ( ثوارلآخر مدى ) ! ، والعجيب إن ثمة فرح وغناء في شوارع بغداد وآخرون يبكون في الشوارع الآخرى!، تناقض عجيب وكأن الشعب العراقي ألف دولة ودولة، ولا احد يسأل لماذا يُسحل حكام العراق ويهانوا بطريقة سادية !.
 
في 18 تشرين الثاني لعام 1963م، انقلب المشير الركن عبد السلام عارف ضد شركاءه في الإنقلاب وهم عبد الكريم قاسم ومن معه، ممن نصبوه رئيسا للجمهورية العراقية بلا أية انتخابات تشريعية، وعفا عنهم تقديراً للعشرة، لكن نهايته كانت مفجعة أيضا ، إذ تحطمت طائرتة اثرحادث غامض، وكالعادة فثمة من حزن عليه ، وثمة من فرح، وقد تواصل عهده بعهد أخيه الذي اختير من بعده رئيسا ، ولأول مرة يرث الأخ حكم أخيه في العراق الجمهوري ! وبالرغم من حدوث أكثر من محاولة انقلاب إلا أن العارفيين الاثنين لم يعدما من تآمر علي حكمهما ! وإذا كانت نهاية حكم عبد الرحمن عارف سليمة ، إذ لم يقتل أو يعدم ، بل نفي إلى تركيا على يد الانقلابيين البعثيين في 17 تموز / يوليو 1968 ( توفي في الأردن 24 أغسطس 2007) ، إلا أن أركان الحكم العارفي قد نالتهم التصفيات البشعة ، إذ عّذب الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء السابق عذابا شنيعا ، وسلخ جلد شامل السامرائي وزير الوحدة السابق ، واحرق بطيئا عبد العزيز العقيلي على مدفئة وكان وزير دفاع سابق ، ، وقطعّت أعضاء رشيد مصلح التكريتي الحاكم العسكري السابق ، وعّذب طاهر يحي التكريتي رئيس الوزراء السابق عذابا لا يرحم ، وفعل بالعشرات من غيرهم من دون أن يذكرهم أحد.
 
وفي عهد الرئيس البكر قتل واعدم المئات بشتى أنواع القتل ولإعدامات الجماعية ومجازر قصر النهاية، ومديريات الأمن العام، وقتل العديد من المشاركين في السلطة الجديدة بدءا بناصر الحاني وعبد الكريم الشيخلي وحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف ومدحت الحاج سري وشيوخ عشائر واعيان مجتمع ومئات لا يحصى عددهم، انتقالا إلى من كان يتهم بمؤامرات قلب نظام الحكم أو الذين اتهموا جواسيس وعملاء وخونة وصولا إلى ناظم كزار مدير الأمن العام الذي كان يتصف بشروره وقتله أعدادا لا تحصى من العراقيين وما سمي بمؤامرته التي قتل فيها حماد شهاب وزير الدفاع، وكانت هناك تصفيات بدس السم من اجل القتل البطيء ، وكان ممن ناله ذلك شاذل طاقة وزير الخارجية وعشرات غيره، وكانت نهاية الرئيس احمد حسن البكر غامضة هي الأخرى بعد مقتل ولديه أيضا ، وصولا إلى اعتلاء النائب صدام حسين سدة الرئاسة عام 1979م ، فافتتح عهده بقتل من اتهمهم بالتآمر على حزبه ، وأشهرهم : عبد الخالق السامرائي ، وعدنان حسين، ومحمد عايش ، وغانم عبد الجليل ، وعبد الحسين مشهدي ومرتضى سعيد عبد الباقي ، ورياض حسين ، وفاضل البراك وصولا إلى عدنان خير الله ( الذي قتل بحادث طائرة غامض ) وزوجي أبنتيه حسين كامل وأخيه وغيرهم كثير . 
 
ولقد أعدم العشرات من الضباط العراقيين بتهمة التخاذل والجبن في الحرب العراقية الإيرانية، كما اعدم عدد كبير من التجار بتهمة تهريب العملة، وقتل العديد من أركان المعارضة السياسية ، وكان في مقدمتهم السيد محمد باقر الصدر وأخته نور الهدى وعدد كبير من أعضاء حزب الدعوة، والعديد من الشخصيات العراقية أمثال الشيخ طالب السهيل والدكتور راجي التكريتي، وهناك العشرات من الشخصيات المهمة سياسيا وعسكريا واجتماعيا لاقوا حتفهم بأساليب مختلفة شنقا ورميا بالرصاص واغتيالا، وتعذيبا وتسميما،أما التصفيات والإعدامات الجماعية التي واجهها العراقيون إبان الحروب في الشمال أو الجنوب ، أو في السجون والمعتقلات، فهي كثيرة لا تحصى أبدا والعراقيون ما زالوا يعانون من آثارها وتداعياتها الصعبة . 
 
لقد جنى صدام حسين على نفسه نتيجة سياساته الدموية، فسقط بيد جيوش الاحتلال الأمريكي في 9 نيسان / ابريل 2003م، وقبض عليه لاحقاً، وحوكم صورياً على امتداد سنة كاملة ، ونفذ فيه حكم الإعدام شنقا فجر عيد الأضحى، ومثلما انقسم العراقيون عند نهايات من سبقه من الزعماء، انقسموا إزاء نهايته، فهل ثمة من يدرك مغزى هكذا مآلات ! ولماذا ينتهي زعماء العراق واغلب قيادييه ومسؤوليه نهايات فاجعة؟، إنه ببساطة حجم الحقد الهائل.
 
ومازال العراقيون ينشرون الحقد بين أنفسهم ويصلون بناره كل يوم ، فإذا كانت حياة الفوضى قد استشرت بالعراق، وأصبح الموت كشرب الماء ، فعلى العراقيين أن يدركوا بأنه وخلال السنوات التي تلت سقوط بغداد عام 2003م، قد رحلت عن هذه الدنيا أعداد لا تحصى من أرواح أبناءهم دون ذنب ، وبإن التاريخ يملك دروساً قاسية لمن يدرك معنى الأحداث ويتعلم منها، وبأن تاريخ العراق لابد أن يعقله كل العراقيون ، كي يغّيروا ما بأنفسهم بعيداً عن الحقد والثارات المزعومة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد