نهضة يسارية أوروبية مفاجئة - فيصل جلول

mainThumb

28-01-2015 08:24 PM

"الديمقراطية اختراع يوناني.. والتراجيديا أيضاً" بهذه العبارة اختصر أحد المعلقين الفرنسيين فوز حزب سيريزا في الانتخابات البرلمانية اليونانية وتوليه للمرة الأولى حكومة هذا البلد العريق ،حيث لم يسبق من قبل أن حكمت أثينا مجموعة سياسية من أقصى اليسار .

هكذا إذاً ستكون أثينا الحديثة على موعد جدي مع "الاختراعين" آنفي الذكر: أن تكون الديمقراطية حلاً لليونان ولأوروبا على الضد من إرادة الأسواق الليبرالية أو بالتوافق معها، أو أن تكون اليونان وأوروبا على موعد مع التراجيديا الإغريقية فيكون انتصار الأحد الماضي سبباً في انهيار المشروع الأوروبي .

في الاحتمال الأول، يمكن القول من دون تردد إن أقصى اليسار الذي يلجأ في بلدان الأخرى إلى العنف والسلاح للتعبير عن إرادته ومطالبه، وفي افضل الحالات يقاطع الانتخابات ويعتبرها مهزلة، قد برهن في اليونان أن الديمقراطية وسيلة ممكنة للوصول إلى السلطة وقلب الأمور رأساً على عقب . وبرهن أيضاً أنه يمكن طلب السلطة من صناديق الاقتراع عندما تكون اللعبة السياسية محترمة ومحايدة ومحروسة من الرأي العام .

لقد جاء سيريزا إلى السلطة من مسافة بعيدة فهو لم يكن قبل سنتين يمثل أكثر من 2 إلى 4 في المئة من نسبة الناخبين في اليونان غير أن التطورات التي شهدتها البلاد منذ أربع سنوات قد صبت الكثير من المياه في طاحونته ونقلته من الهامش إلى مقدمة المسرح السياسي، ولعل بعض الأرقام تفيد في تظهير الصورة كما ينبغي أن تظهر . الرقم الأول يتصل بحجم الفقراء في هذا البلد الأوروبي العريق، الذي أصبح بحدود 30 في المئة من حجم السكان، وهذه النسبة المرتفعة لا يمكن العثور عليها إلا في البلدان المتخلفة . والرقم الثاني يتصل بالشركات اليونانية التي انهارت بالعشرات، بل يفصح تقدير جدي بأن شركة واحدة من كل ثلاث شركات أقفلت أبوابها ما يعني أن البنية التحتية الإنتاجية للبلد قد تصبح في خبر كان إذا ما استمرت سياسة التقشف الراهنة التي فرضتها المستشارة الألمانية ميركل على اليونانيين، علماً أن هذه السياسة رفعت نسبة العاطلين عن العمل إلى أكثر من 27 في المئة، وهي نسبة مرتفعة جداً بالقياس إلى نسب البطالة في أوروبا . بالمقابل تمكنت اليونان بفعل إجراءات التقشف من سداد مئة مليار دولار من ديونها، لكن ذلك لا يكفي لأن إجمالي الدين يصل إلى 367 مليار دولار أي ما يزيد مرتين على إجمالي الإنتاج الوطني .

والرقم المفيد لسيريزا هو النمو الذي تحقق بفضل التقشف، ووصل إلى 6 في المئة العام الماضي ومن المتوقع أن يكون نحو 3 في المئة للعام الجاري في حين تصل نسب النمو إلى مستوى الصفر في دول أوروبية أساسية مثل فرنسا، ولا ترتفع إلى الأعالي في ألمانيا، كما كانت عليه حال هذا البلد قبل سنوات قليلة . يمكن لسيريزا أن يستفيد من نسبة النمو المرتفعة، لكن ليس برصيد مفتوح، وليس بتطبيق كل الوعود الانتخابية التي طرحها اليسار المتطرف في حملته الانتخابية، ومن بينها خفض سن التقاعد من 67 إلى 62 سنة، ورفع الحد الأدنى للأجور وإيجاد مئات الآلاف من فرص العمل، وهذا يعني أن على الحزب الحاكم أن يطبق بعض برنامجه وأن يهمل البعض الآخر تحت طائلة خسارته للاستحقاقات الانتخابية المقبلة أو على الأقل انخفاض أسهمه فيها .

لن تكتمل صورة ما سيفعله اليسار في أثينا إلا بعد نحو سنتين من ممارسة السلطة على الأقل، والراجح أن يفي بقسم مهم من وعوده الانتخابية، وأن يتحول من حزب هامشي في الحياة السياسية اليونانية إلى حزب أساسي يحقق التوازن مع الليبرالية التي غزت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التقليدية، وهمشت الأحزاب الشيوعية في هذا الوقت تنتقل العدوى اليونانية إلى بلدان أوروبية أخرى، ومن بينها إسبانيا في القريب العاجل التي تشهد ظاهرة جديدة كظاهرة سيريزا وفرنسا التي ابتهج فيها جان لوك ميلونشون رئيس الحركة الشعبية بالنصر اليوناني، معتبراً أنه يفتح الطريق على تغيير راديكالي في مختلف البلدان الأوروبية، وبالتالي الوصول إلى البرلمان الأوروبي، وإلى مؤسسات الاتحاد لبناء أوروبا الاشتراكية اليسارية في مواجهة أوروبا الليبرالية الجشعة، ومن إسبانيا وفرنسا يمكن لهذه الظاهرة أن تصل إلى ألمانيا، وربما إلى إيطاليا فضلاً عن بلدان أخرى تعاني وطأة الضغط القاتل للرأسمالية المتوحشة على مصادر عيش الأوروبيين وهم بأكثريتهم الساحقة يتطلعون إلى مستوى أعلى من العدالة الاجتماعية .

لم يخطئ اليونانيون القدماء في اختراع الديمقراطية التي يستفيد منها اليوم خلفاؤهم، فقد طوى رئيس الحكومة الفائز الكسيس تسيبراس صفحة سوداء في تاريخ بلاده، وفتح بواسطة الديمقراطية طريقاً جديداً لأوروبا يسارية مقابل أوروبا ميركل الليبرالية الجشعة ويراهن تسيبراس على رضوخ الاتحاد الأوروبي لبعض مطالبه وربما لإلغاء الديون أو أكثرها خوفاً من أن يؤدي انسحاب اليونان من الاتحاد إلى انسحابات أخرى وأن يتحول إلى ناد للدول الشديدة الثراء وسط بيئة أوروبية من الفقراء والمهمشين . هذا إذا نظرنا الى التجربة اليونانية من منظار إيجابي وإلى ردود الفعل الأوروبية بالمنظار نفسه لكن منظاراً آخر مازال صالحاً أيضاً ويفيد أن نجاح سيريزا في الانتخابات اليونانية سيكون فرصة لصناعة التراجيديا في مهدها اليوناني وفي الفضاء الأوروبي، خصوصاً بعد إعلان البنك الأوروبي أنه لن يعيد النظر في الديون اليونانية، ولن يلغي شيئاً منها، لكن ديونه لا تتعدى ال 15 في المئة وبالتالي يراهن اليسار اليوناني المتشدد على الغاء أو تخفيض ديون الحكومات، وهذه الأخيرة لم تقرر شيئاً بعد فإن تشددت اقتربت أثينا من التراجيديا، وأن اعتدلت اقترب اليسار اليوناني المتشدد من تحقيق حلمه ورهانه، ولعله يقترب بدليل أن اليورو سجل انخفاضاً قياسياً أمام الدولار، وهذه تحية إيجابية بنظر خبراء البورصة لليسار اليوناني الفائز. - (الخليج الاماراتية)
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد