( 2011 – 2015 ) حراكات خارج منطق التاريخ – الجزء الأخير

mainThumb

27-02-2015 02:08 PM

في استعراض ما شهدته بعد الأقطار العربية من حراكات تحت عناوين مختلفة بمسميات متعددة كان من أبرزها توصيفي (الربيع العربي),(والثورة الشعبية),ولم يكن محتوى أياً من التوصيفين يحمل معنى قريباً من الحقيقة اللغوية لكل منهما.

حيث سرعان ما تبدت الخلفيات الفكرية والغايات المخفية وراء تلك الحراكات التي شهدتها تونس,وليبيا,واليمن,وسوريا ومصر بشكل مباغت ومباشر,مغلفة حراك البعض منها بالصياغات البلاغية العاطفية التي يزول تأثيرها بالتوقف عن إسماعها,وشهدت بقية الدول العربية ارتدادات تلك الحراكات التي أخذت تتخبط في مجاميعها وفي أهدافها وفي مصالحها,على الرغم من أن تلك الدول هي التي رعت علانية تلك الحراكات أو بعضها ومولتها ودعمتها إعلامياً ومالياً وتسليحاً بإشراف مباشر من القوى الدولية الامبريالية ,وتدخل الدول الإقليمية ذات المطامع التاريخية في السيطرة على المنطقة وإعادة تاريخ السلطنة العثمانية البائسة,والصفة الامبريالية على الدول الأنجلو أميركية ليست تهمة سياسية رمتها الشعوب التي عانت من استعمارها في وجههم ,وإنما كذلك تصفها أدبيات مفكريها ومنتقديها ومعارضي سياساتها والتي تقع الولايات المتحدة الأميركية في قمة هرمها.

لم تحمل تلك الحراكات,وما سميت بالثورات ,التي شهدتها بعض الأقطار العربية في طيات بياناتها,وعلى صحائف طروحاتها أي معنى حديث عن مقتضيات الثورة ومناهجها,بل تمترست خلف المصطلحات التاريخية للثورة وللحراكات التقدمية والانتفاضات الشعبية التي ترسخت ظروفها وأدبابها ودوافعها,وانطلقت عن تراثها مضامينها ومعانيه الملازمة لها.ولكنها لم تلتزم بالحدود الدنيا من أي من معانيها,أو مضامينها لعدة أسباب نأتي على ذكر أهمها:

لمعنى الثورة الشعبية ومحتواه العملياتي بريق حقيقي يحمل معه أمالا عريضة تلتف حولها المكونات الشعبية في البلد بمجرد بدء شرارتها لإن أهداف الثورة الشعبية تكون في العادة مصاغة من معاناة هذه المكونات من الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعرقي والطائفي بأنواعه,والاستئثار بالسلطة بأشكاله المخادعة ومنطلقاته الأبوية,واستعلاءه على القيم السائدة,والتي تتجرأ على الحريات الفردية,وتقضم القيم الديمقراطية وتختزلها بعناوين فارغة من أي مقاربة مع الأساليب الديمقراطية وأنماطها, واختزال الإرادة الشعبية بإرادة حزب أو فئة أو جماعة.

تعتمد على تحرك القوات المسلحة فيما تتعارف عليه المفردات السياسية بالانقلاب العسكري الذي ندر أن يتحول إلى ثورة شعبية بالمعنى الحرفي,والثورة الشعبية تكون نقية خالية من العنف والاقتتال والترهيب والوعيد لإنها تعبير صادق عن ضمير وطني يريد رؤية وطنه مدرج في قوائم الأوطان المعاصرة التي تتقدم مع موجات التقدم التي تجتاح العالم منذ القرن السابع عشر.

ومن أسس بناء أهداف وطنية مشروعة تحفز على قيام الثورة الشعبية الأصيلة,التقاء مكونات الوطن على عناوينها الحضارية الرئيسة,وعلى مبتغاها الذي يحقق مصالح كافة المكونات الشعبية,كل باستحقاقاته الوطنية ولكل (أي لكل فرد مواطن) صيانة قيمه الإنسانية,وحقوقه الأساسية في الحرية وفي الثقافة وفي أوسع دائرة من الخيارات.ويقع في مقدمة تلك الأهداف النضال الجاد ضد قوى الاستغلال المحلي والاستعمار الغريب والأجنبي,لتحرير القرار الوطني من كل الشوائب والتدخلات الخارجية,وقوى الردة الداخلية,واستكمال البنى السياسية وهياكلها السيادية ومؤسساتها المتشوقة لبعث الحيوية والنشاط في قوى الإنتاج المحلية الصناعية والزراعية والخدماتية والثروات الطبيعية,,,,وبعث الحماس للعمل في المؤسسات الرسمية البيروقراطية.أي يجب أن يكون للثوار مشروع وطني متماه مع الأهداف المرجوة,وخطط تنفيذة بالغة الوضوح في عصر لم يعد من حق أحد أن يتعذر بعدم المعرفة ,أو بسؤ التقدير أو بتغير الظروف المفاجئ..... لأن العسر الفكري لا يُنتج معرفة ولا يصل إلى حقيقة ولا يصنع تقديرات ظرفية وزمانية محتاط لها ولمفجآتها.وما دمنا نتحدث عن ثورة شعبية في هذا الزمن,يندرح حاملوا العقائد الشمولية في قائمة المعسرين فكرياً.

ومن ظواهر العسر الفكري,أن يحمل تيار شعارات الديمقراطية والتعددية وينادي بالحرية ليصل إلى غايته في السلطة ثم يمارس الاستبداد والاستحواذ على السلطة وينهج سياسة قمع الحريات ويرعب المواطنين  بقمع تمارسه المليشيات المسلحة,ويظن أن ذلك يعطيه الحق في الاستمرار بالسلطة,أو التمسك بها والتعاطي بأدواتها حسب رغبته.

ولنستعرض مجريات الحراكات التي شهدتها بعض الأقطار العربية,ونحتكم إلى منطق التاريخ في وصفها,ونحاكي مسارها بما تنجلي عنه منطلقات منطق التاريخ الإنساني.

في تونس أدركت حركة الإخوان المسلمين وبعض التيارات الإسلامية السياسية,أن الاتعاظ بأحداث مصر فيه ملاذ أمن من السقوط والاضمحلال,فرضخت لضغط شعبي (على الرغم من الزعم بالتخلي الطوعي عن السلطة) بالتخلي عن السلطة والوفاء ببعض شعاراتها المتعلقة بالديمقراطية,التعددية,وتُحسب لزعيم حركة الإخوان الشيخ الغنوشي حكمته في الاعتراف بالأمر الواقع الرافض لاستئثارهم بالسلطة.وها هي تونس تأخذ سبيلها إلى الاستقرار والتحول إلى الديمقراطية.

في ليبيا,قامت (الثورة) بدعم من طائرات حلف الأطلسي بمشاركة أميركية,ودعم مالي وعسكري بعض عربي – تركي.دمرت ليبيا واختلفت الحراكات على تقاسم الخيرات!!ونهش جسد الدولة الليبية,الصراع الدامي على على السلطة,فإذا بمكونات الشعب مجندة لأغراض تخصها ومكاسب فئوية شديدة الضيق.وها هي (الثورة الليبية!!) تتحول إلى مليشيات تتناقض في الفكر وتتباعد رؤاها وتتناحر أجنحتها باسم الوطن وبالتغني (بالثورة) وكأن الشعب يثور على أمنه وعلى لقمة عيشه وعلى استقراره السياسي والاجتماعي لتحولها إلى ركام وإلى اندثار لكيان الوطن وحرية المواطن.ومن طرائف المنطق الامبريالي امتناع دول الحلف عن التخل في ليبيا لوقف انهيار الدولة ووقف الاقتتال واستمرار التدمير لقواها وثرواتها.

جاءت (الثورة) في مصر بحراك شبابي كان في بعض منه مرتبط بمدربيه ومعديه في مؤسسات صربية بإشراف المخابرات الأميركية,ولكنه دون قيادة,أي (ثورة) بلا قيادة,وبلا مشروع محدد المعالم واضح المناهج,متبلور الأهداف الثورية,لا يلتقي مع منطق التاريخ في معايير الثورة السائرة باتجاه تحقيق أهداف متفق عليها.لهذا تمكنت قوى حركات الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين السيطرة على قيادة الأحداث وتجييرها لمصالحها الخاصة بها,والاستيلاء على السلطة بانتخابات مزورة ووعود نكثت بها كلها,وممارسات أسماها المصريون بـ أخونة الدولة,وهي ممارسات ترى في ماضيها خيراً من حاضرها,وهي رؤية تستعصي على الفهم المنسجم مع طبيعة العصر ومتطلبات العصرنة.

ولكن سرعان ما تحولت الحراكات المعارضة لسياسات الإخوان والمعترضة على عسر فهمهم لمتطلبات المرحلة إلى ثورة شعبية بالمعنى الموصوف,بعد أن عزل الشعب المصري بغالبية أبنائه وبناته وقضاته,سياسييه ومفكريه وإعلامييه, نسائه ورجاله,شبابه وشاباته, فنانيه وفناناته,مطربيه ومطرباته,الناشطين والصامتين,وجيشه وقوى أمنه ..... الرئيس مرسي والجماعة ومؤيديها ومناصريها عن الحكم بحراك شكل ظاهرة شعبية نادرة تاريخية أعطت زخماً لمنطق التاريخ في معنى الإرادة الشعبية والثورة الشعبية.

أن تقوم حراكات تدعي إنها (ثورة) شعب,تستنجد بقوى أجنبية لتكرار فعلة ليبيا المأساوية,يتناقض مع كل القيم الوطنية والأخلاقية ومع كل منطق تاريخي تعارفت عليه الثقافات البشرية في أطوار ما قبل الحضارة وما بعدها,كما يحدث في سوريا من حرب معلنة أطرافها من دول االقوى الامبريالية وتركيا وقطر ومرتزقة من أكثر من سبعين دولة,وعدد تسمياتها ومسمياتها تفوق أحيانا عدد أفراد بعضها,وتقول إنها (ثورة) الشعب السوري!!؟؟.وها هي تقتل فيما بينها لأسباب فهي حراكات فئوية مندسة في صفوف ترتمي في حماية أجنبية تتعارض أهدافها وتتناقض في مزاعمها الثورية!!!!,تقصف المدن والمدنيين بقذائفها دون تمييز,أي (ثورة) تقتل شعبها كلما ضاقت عليها مكاسبها الفردية والشخصية.

يخرج سلوك أمة على منطق التاريخ عندما تجد الأمة نفسها في حرب داخلية تخدم أغراض أعدائها,وتنفذ رغباتهم,وتستعير مصطلحات خيّرة للقيام بأعمال شريرة.ومن أوليات منطق التاريخ الإنساني,أن حركة التاريخ الطبيعية تسير باتجاه ارتقاء الإنسان إلى مستويات معيشية أفضل وإلى مكتسبات حقوقية في الحرية والكرامة والاستقلال الوطني والاستقلال الذاتي وامتلاك أدوات التحضر والتطور.وينزلق المنطق إلى مهزلة وشرذمة مفردات عندما نجد أن بعض الفئات في الحراك العربي مدعومة ببعض الأنظمة  تتولى تمزيق الوطن نيابة عن أعدائه و بدلالة اتفاقية سايكس – بيكوالاستعمارية,ولكن,كبديل عنها أشد حماساً بالتوسع في التشرذم والتجزئة والتفتيت,الجغرافي والطائفي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد