أستودِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَرا ..

mainThumb

28-02-2015 10:27 AM

يتيمة ابن زريق البغدادي على رأي من يرى أنها القصيدة الوحيدة له ، وهي الوحيدة في الجمال والسبك .

قصيدة تغنَّى بها الأدباء ، وحفظها البُلغاء ، ولكن لم تحظَ بمن يَخْدُمها من جهة الشرح المتكامل من أوَّل بيتٍ إلى آخر بيت كما تناول كثيرٌ من الشُّرَّاح قصيدة ( بانت سعاد ) ، وقد قرأتُ قديماً في منتدى أهل الحديث أن هناك مخطوطاً لأحد الشُّرَّاح القدماء في جامعة برلين الألمانية ، وحاولتُ أن أَحْصُلَ عليه ، ولكن لا جدوى !

ثمَّ فرحتُ لما قرأتُ أن الدكتور محمود الطَّناحي تلميذ الأديب السلفي محمود شاكر – رحمه الله – تناول القصيدة ، فسعيتُ جادَّاً للحصول على هذا الشرح ، فكان لا يروي ظامئاً ، لأنه تكلم عن القصيدة بشكل عام ومجمل دون شرح أبياتها كما ظننْتُ .

فكلي أملُ أن أُوَفَّقَ إلى تناولها شرحا يشبه شرحَ السيوطي لقصيدة ( بانت سعاد ) الذي أسماه : ( كُنْهُ المراد في بيان بانت سعاد ) فالله المعين ، وهو الموفقُ لكل خير وبر .

وسأقوم بتناول بيتٍ قبل سنوات اتَّصلْتُ بالأديب ناصر الدين الأسد أسألُه عن الراجح في كلمة ( مِن فَلَكِ الأَزْرَارِ ) ، فقد ذهب فيها الناسُ مذاهبَ ، وهي تكاد أن تكون الكلمة الغامضة في القصيدة كلها .

قال ابن زريق :

أَسْتَوْدِعُ اللهَ في بغدادَ لِيْ قَمَراً
.....بالكرخ من  فَلَكِ الأزرارِ  مَطْلَعُهُ .

وقبل التَّعَرُّضِ لتلك الكلمة التي اختلفتْ أقوالُ الشُّرَّاح فيها ، سيكونُ شرحي لِلْبيتِ كُلِّهِ – إنْ شاء الله – فقد تركَ ابنُ زريقٍ زوجَهُ في ناحية الكرخ - وهي من أحياء مدينة بغداد ؛ دار السَّلام – فقد سافر إلى بلاد الأندلس بحثاً عن رزقٍ أحسن وأفضل ، وكانت زوجُهُ تعارضُ هذا السفر والرحيل ، ولكن تمَّ الرحيلُ وَقُضِيَ الأمرُ ، فابنُ زريقٍ يبدأُ في هذا البيت بالفعل المضارع رغم أنه مضى على رحيلِهِ الأيامُ والليالي ، فلم يقُلْ :  استودعتُ  بصيغة الماضي ، بل لا يزال مستمرَّاً بالدعاء ؛ فلذلك جاءت صيغة المضارع ، وهذه الوديعة جعلها في ذمَّة الله وحفظه ، وهذا دليلُ على تدين هذا الشاعر ، فقد جاءت السنَّةُ فيما يقول المقيم للمسافر ، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ودَّع رجلاً أخذ بيده، فلا يدعها، حتى يكون الرجل هو يدَع النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: ( استودع الله دينك، وأمانتك، وآخر عملك ) أخرجه الترمذي ، وجاء ماذا يقول المسافرُ للمقيم ، عن أبي هريرة ر ضي الله عنه، مرفوعاً بلفظ: ( من أراد أن يسافر، فليقل لمن يُخلِّف: استودعكم الله الذي لا يضيع ودائعه ) أخرجه الطبراني في الدعاء ، ولكنه من طريق رشدين بن سعد، وهو ضعيف.

فلعلَّ ابنَ زريق كان يستحضرُ هذه السنة ، فلذلك قال : ( أستودعُ اللهَ ... ) .

وبغداد مدينة اختطَّها المنصور سنة ( 140 ) للهجرة ، ثُمَّ توسَّعتْ وامتدَّتْ ، ويقال لها :  دار السلام  و في تسميتها بهذا الاسم سببان ، الأوَّلُ : أن السَّلام هو نهر دجلة التي عليه بُنِيَتْ بغداد ، والثاني : أنه يُسَلَّمُ فيها على الخلفاء ؛ لأنها دارُهم وموطِنُهم .

ومما قيل في تسمِيَتها ببغداد ؛ أن بَغْ اسمٌ لصنم لرجل يُدْعى : داد !! فلذلك كَرِهَ بعضُ الفقهاء أن يُقال لها : بغداد ! ويجوز فيها ، بغدان بالنون بدل الدَّال .

وأيضا يُقال لها :  الزوراء  لانحراف قبلتِها ، قال الشاعرُ :

فِيْمَ الإقامةُ بالزوراء ، لا سَكَني
..... بها ولا ناقتي ، ولا جملي .

وبغداد سبع محلات :

1 – الرّصافة

2 – مشهد أبي حنيفة

3 – جامع السلطان

4 – مدينة المنصور ؛ وتُسَمَّى باب البصرة ، وكان بها ثلاثون ألف مسجد !

5 – مشهد موسى بن جعفر

6 – الكرخ ، وهي محلَّة شاعرنا ابن زريق كما جاء في البيت .

7 – دار القَزِّ .

فشاعرنا يصف زوجَهُ بالقمر إنارةً وعُلُوَّاً ، وقد جرى الشعراءُ على هذا الوصف من قديمٍ وحديث ، لأن القمرَ له شأنٌ وأيُّ شأنٍ !!

وهذا القمرُ مطلعُهُ من  فَلَكِ الأزرار  فقد كَثُرتْ أقوالُ الشُّرَّاحِ في تفسير هذه الكلمة ، فمنهم من ذهب إلى أنها محلَّةٌ في الكرخ نفسه ، ومنهم من ذهب إلى أنها مسار النجوم ، ومنهم من ذهب إلى أنها فتحة القميص الذي يحيط بعنق الفتاة .

وسندلي بدلونا ، عسى أن نصيبَ مرادَ ابن زريق ، وقد ذكرتُ في بداية مقالي اتصالي بالأديب ناصر الدين الأسد مستفسرا عن معنى ( فلك الأزرار ) ؛ فأجابني أن المقصودَ هو الياقة التي تكون للثوب وعليها الأزرار ، وهذا ما تميلُ له النفسُ لورود ذلك في عِدَّة أبيات ، منها :

قال ابن طباطبا العلوي يصف مليحا :

لا تَعْجبوا مِنْ بِلَى غِلالَتِهِ
..... قد زَرَّ أزرارَهُ على القمرِ

والغِلالةُ ثوبٌ شفَّاف يُلبَسُ ملاصقا للجسد ، ومن اعتقادات العربِ أن القمرَ يبلي الكِتَّانَ ، فابنُ طباطبا يقول : لا عجبَ أن تكون غلالةُ المليح باليةً لأن وجهَهُ قمرٌ ، ومن عادة القمر أن يُحدثَ في اللباس البلى !

فجاء ذكرُ الأزرار، ويقصدُ بها ما يكون على دائرة ( فلك ) القميص .

وقال آخرُ في مليح :

تراءتْ البدرَ عيونٌ ، ولم
..... ينظرْ إليه مع نظارِهِ

وما الذي يَصْنَعُ بالبدرِ مَنْ
.....أطلعَهُ اللهُ بأزراره .

فالأزرار هي أزرارُ الثوب التي تكون في العُنُقِ ، وقد أشار إلى ذلك العلامة أحمد تيمور في مختاراته الأدبية ( 79 ) عند أبيات أبي نواس :

ودارِ ندامى عطَّلوها ، وأدلجوا
..... بها أثرٌ منهم ،جديدٌ ودارسُ

فَلِلْخَمْرِ ما زُرَّتْ عليه جُيُوبُها
..... ولِلْماءِ ما دارتْ عليه القَلانِسُ

( يعني أنه صبَّ الخمرَ في الكأسِ إلى أنْ بلغتْ صُوَرَ حلوقِ الفرسانِ ، وهو موضعُ الإزرارِ ... ) ، فكلمة الأزرار يستعملها الشعراء ، ويقصدون بها ياقة الثوب الذي هو مخرجُ العنقِ والرأسِ .

وجاء أيضا :

فكم في قباب الحيِّ من شَمْسِ كِلَّةٍ
.....وفي فلك الأزرار من قمر سعدِ

فهنا قصد محبوبةً كالقمر خارجةً من ياقة ثوبها .
وجاء أيضاً :

غصنٌ ولكن بماءِ الحسنِ مَنْبَتُهُ
..... بدرٌ ولكن من الأزرارِ مَشْرِقُهُ

فلعلَّ الأقربَ إلى مرادِ ابن زريق هو ما أشرنا إليه والله أعلم .
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد