ثقافة الصمت - د. عبدالعليم محمد

mainThumb

28-02-2015 09:06 PM

قسم المؤرخون والفلاسفة وعلماء الاقتصاد والاجتماع المجتمعات الإنسانية إلى حاكمين ومحكومين، وطبقات حاكمة وأخرى محكومة، وإلى رؤساء ومرؤوسين، وما دون ذلك من التقسيمات المختلفة.
 
على أنه في مطلع القرن الحادي والعشرين، الذي يشهد ذروة الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات، بمقدورنا أن نضيف إلى هذه التقسيمات للمجتمعات الإنسانية تقسيماً آخر، يتأسس هذه المرة على الكلام والصمت، فثمة مجتمعات تملك حق الكلام.
 
وأخرى لا تمتلك سوى حق الصمت؛ الأولى تفرض على بقية المجتمعات الإنصات والاستماع عندما تتحدث وتصرح وتفكر، أما الثانية فلا تملك سوى الاستماع والصمت، ولو تحدثت، لن تجد من يسمعها، تملك المجتمعات المتحدثة والناطقة آلة جبارة لفرض الاستماع والإنصات.
 
ووضع المجتمعات الأخرى في موقع المستقبل السلبي، فهي تمتلك أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، المنخرطة في شركات عابرة القارات، كما تمتلك وكالات الأنباء العالمية والصحف ذات الشهرة، وتحتكر تدفق المعلومات؛ وهذه الوضعية تسمح لهذه المجتمعات بتملك قدرات نوعية، تتمثل في حجب المعلومات والتحكم في تدفقها، أو إساءة استخدامها وتطويعها وفقا للأهواء الإيديولوجية والمصالح الأمنية والاستراتيجية.
 
وتتوزع احتكارات الإعلام والمعلومات والاتصال عبر شبكة كبيرة من الشركات العابرة للحدود أو المتعدية للحدود، بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان وأوروبا الغربية، فنحن نرى من خلالها وعبر عيون هذه الشبكة العالمية ما يجرى في العالم من حادثات ولا نسلم بالطبع من تحيز الرؤى واختلال زوايا النظر.
 
لقد دعم هذا التقسيم ثقافة الصمت، وعزز وجودها وانتشارها في المجتمعات النامية، حيث لا تمتلك هذه البلدان البنية التقنية والفنية ومصادر القوة اللازمة للحصول على حق الاستماع، أي أن تتكلم فينصت لها الآخرون، وينتبهون لرؤاها في العالم الذي يتشكل من جديد على حسابها.
 
ولا شك أن هذه الظاهرة يعاد إنتاجها على الصعيد الوطني والمحلي في المجتمعات النامية، حيث يتعمق الاستقطاب بين من لهم حق الكلام، وأولئك الذين لا يمتلكون سوى الصمت وهو ما اصطلح على تسميته بالأغلبية الصامتة.
 
وهذا الاستقطاب الداخلي يمنح حق الحديث والكلام للفئات المتنفذة في المجتمع والتي تقرر السياسات والتوجهات العامة، بينما ينزع هذا الحق من الأغلبية، ويفرض عليها ثقافة الصمت والإنصات والاستماع.
 
غير أن لهذه الظاهرة جذورها العميقة في التجربة البشرية بشكل عام وفى الثقافة العربية بشكل خاص، فالأصل في الإنسان هو الكلام، والاستثناء هو الصمت، وفى البدء كانت الكلمة، وذهب بعض الفلاسفة إلى أن الإنسان حيوان ناطق، تمييزا له عن بقية الكائنات.
 
ولكن ما حدث أنه في مجرى تطور اللغة والكلام، واكتشاف الإنسان لوظيفة الكلام السياسية والاجتماعية والحربية أيضا، اتضحت هوية هذه الوظائف الجماعية، وتعلقها بمصالح الجماعة البشرية.
 
ومن ثم أصبح المتحدث مقيداً بالشروط التي فرضتها هذه الجماعة، فالكلام لم يعد حراً وتلقائياً وضرورة فردية، وحددت الجماعة شروط من يتحدث باسمها، واختارت من ينوب عنها في الحديث، وعنى ذلك اختراع الصمت وفرضه على أولئك الذين لم يقع عليهم اختيار الجماعة للحديث باسمها.
 
لتعزيز هذه الثقافة أي ثقافة الصمت جرت الحكم والأمثال والمأثورات لتدعيم قيمة الصمت فهو - أي الصمت- من ذهب عندما يكون الكلام من فضة، والصامت هو بمثابة الحليم والحكيم واللبيب بهدف فرض الصمت كقيمة عليا.
 
وقد انخرطت الثقافة الشعبية بدورها في ذلك المسار الذي خطته المؤسسة الثقافية الرسمية أي تعزيز قيمة الصمت، والتحذير من مغبة الكلام واللسان، حيث انهما يمثلان مواقع الخطأ والندم، في حين أن إيثار الصمت يمثل مصدر السلامة والأمان.
 
وأعتقد أنه في مطلع القرن الحادي والعشرين من حقنا أن نؤمل في تغيير توازن الكلام - الصمت، ولا أقول تبديله حيث ان تبديله هو ثورة في حد ذاتها، إذ يعني أن تنتقل الأغلبية الصامتة إلى مواقع الأقلية المتكلمة والعكس صحيح، فقط تغيير في هذه المعادلة.
 
أن يجد الصامتون موقعاً لقدم في منظومة الخطاب العام وأن يجدوا من ينصت إليهم أيضاً، وهو التغير الذي بدأ يشق مجراه في العديد من الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي. – (البيان الاماراتية)
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد