الخضوع الفكري - المحامي محمد ابداح

mainThumb

05-03-2015 12:58 PM

يبدو أن ما فعلته وتفعله داعش في كل من سوريا والعراق ولبنان وليبيا وغيرها من الأماكن التي تمكنت من الوصول إليها مادياً ومعنوياً ، لم ينجح فقط في قتل آلاف الأبرياء ، ونزوح أضعاف تلك الأعداد من منازلهم وقراهم ومدنهم وبلدانهم، بل في تحقيق ما لم يتمكن اليهود أنفسهم من تحقيقه، رغم كل ما يملكه اليهود من إمكانات مالية وبشرية هائلة ، ومن تنظيمات صهيونية سرية وعلنية ، ضخمة ، ودعماً أممياً شاملاً ومستمر، عسكرياً ومالياً واعلامياً ، منذ بداية دعوة محمد عليه السلام وحتى يومنا هذا، وهو إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من رمق أخير لصورة الإسلام على مستوى العالم بأسره .

 وها قد بدأت تباشير هذا الهلع العالمي من الصورة النمطية للهمجية العربية والأسلامية ، والتي تم اختزالها في صورة وحش بشري يدعى تنظيم داعش ، فكل دول العالم - بما فيها الدول العربية والإسلامية نفسها - تحارب الإرهاب العربي والإسلامي ، وتأخذ الإحتياطات الأمنية والتدابير الإحترازية المسبقة في سبيل منع وصول جحافل الغزو الداعشي لبلادهم ، والأخطر من ذلك كله مدى تأثير داعش على الفكر الغربي ، فقد صدر في فرنسا مؤخراً رواية شبه خيالية للكاتب الفرنسي (فينكيلكراوت ويلبيك) باسم ( الخضوع)، وهي تصور فرنسا على انها بلد متأسلم تدرس جامعاتها الطلاب القرآن وتجبر النساء على ارتداء الحجاب، وفي العام 2022، تواصل فرنسا انهيارها التدريجي البطيء، فيما يتولى زعيم حزب اسلامي رئاسة البلاد، وتشجع النسوة على ترك اعمالهن، مما يؤدي الى انخفاض معدل البطالة، والجريمة تختفي في الاحياء السكنية الفقيرة المكتظة بالمسلمين وغيرهم والحجاب يصبح الزي السائد، وتجبر الجامعات على تدريس القرآن، اما الشعب الفرنسي المخدر والفاسد، فيعود الى سليقته التي تعود عليها منذ الحرب العالمية الثانية وهي التعاون مع المحتل ايا كان ويتقبل فرنسا المتأسلمة الجديدة.


ولست أدري هل أن كاتب الرواية (ويلبيك) قد استشرف المستقبل ، وعلم ما سيحصل لفرنسا بعد سبع سنوات من الآن، أم أنه يعكس فقط حدة الجدل الدائر حول تأثيرالاسلام على الهوية الوطنية الفرنسية فعلا في فرنسا ، حيث تبدأ الرواية بنهاية الولاية الثانية للرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا أولاند في عام 2022. يتخيل ويلبيك تحالفا سياسيا سيظهر في دورة الإعادة في الانتخابات، يجمع بين حزب أسماه الأخاء الإسلامي وأحزاب أخرى، بهدف الوصول إلى سدة الحكم، وتنتهي الانتخابات بفوز المرشح الإسلامي الكاريزماتي محمد بن عباس، ويعين فرنسوا بيرو، مؤسس حزب الحركة الديمقراطية، رئيساً للوزراء.
ولعل كتاب (الانتحار الفرنسي) للصحفي اليميني اريك زمور (وهو فرنسي من اصول يهودية)، والذي يناقش انهيار فرنسا الاخلاقي امام الاسلام المتوثب، قد لعب دوراً دورا أساسياً في خلق دافعاً قويا لظهور تيارات فكرية متخوفة من خطر الإسلام  كرواية ويلبيك.

غير أن رواية الخضوع لويلبيك قد تمنح مصداقية لحقيقة ثقافية وفكرية لما يدور في أروقة النخب السياسية الفرنسية ، وترددها مؤخراً على لعب أي دور سياسي مؤثر في الأحداث الدولية وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط الملتهب ..

ويرى ويلبيك ان المذنبين هم المثقفون اليساريون، والجمهور العام المدلل المنحل، وغير المهتم بمصير البلاد، والساسة الذين تعودوا على اللعب بالديمقراطية الحزبية، والتحالفات التجارية لأشغال المناصب الوزارية، ووسائل الإعلام، قصيرة النظر، التي تهتم بترضية أذواق القراء المسحورين بنجوم السينما والرياضة وبصرعات الموضة، ووسائل الإعلام الشريكة في خلق النظام الجديد .

كما أنه يمكن القول أن للرواية بعد سياسي واضح، فبعد انحسار الضجة الاعلامية، سينظر الى هذه الرواية بوصفها تمثل لحظة حاسمة في تاريخ الثقافة الفرنسية ، وهي اللحظة التي دخل فيها اليمين الفرنسي المتطرف في مرحلة مراجعة فكرية شاملة، وخصوصاً بأن هذه الرواية أي الخضوع ، تعكس فكراً معاد للاسلام ، بل وتكشف أبعادا حقيقية لقضايا سياسية متناقضة ، تتظاهر النخبة الباريسية اليسارية بأنها غير موجودة اساسا.

وقد وصف ويلبيك في مقابلات اجراها قبيل نشر الكتاب إن فكرة قيام حزب اسلامي بتغيير وجه السياسة الفرنسية فكرة معقولة جدا، وقال ويلبيك لمجلة باريس ريفيو ( حاولت ان اضع نفسي مكان شخص مسلم، وتيقنت انه في الحقيقة انهم (المسلمون) واقعون في انفصام هوية لا يحسدون عليه!!، وقال إن المسلمين محافظين بطبيعتهم، ولا يمكنهم التأقلم مع اليسار خصوصا بعد ان تبنى هذا زواج المثليين، ولكنهم يشعرون ايضا بالتهميش من جانب اليمين الذي يرفضهم)، وأكمل قائلاً : ( اذا اراد مسلم ان يصوت في الانتخابات، ماذا عساه ان يفعل؟ هو في الحقيقة في وضع صعب جدا إذ ليس لديه اي تمثيل بالمرة) ، وبصرف النظر عن حقيقة وضع المسلمين في فرنسا ، إلا أن الهدف الرئيسي من روايته الأخيرة ( الخضوع)  يتمحور حول عودة الدين الى قلب الوجود الانساني واضمحلال افكار التنوير التي سادت منذ القرن الثامن عشر، حيث إن عودة التطرف الديني على غرار فترة الحروب الصليبة في القرون الوسطى،  ولكنه الآن وقت الجروب الهلالية والتوحيدية وليس الصليبية ، كظاهرة عالمية وهي موجة عاتية لا فرار منها، لذا فإننا قد نشهد تقهقراً في القيم الفكرية  العلمانية .
وفي تناقض فكري آخر أضاف ويلبيك في مقابلاته الصحفية الى ان عودة الدين تعتبر امرا جيدا - ويقول إنه لم يعد ملحدا - وان حتى الاسلام يوفر حلا افضل من الفراغ الوجودي الذي يعاني منه الانسان المتنور!!.

ولكن في لفتة محايدة قال ويلبيك : (  دون شك، وكما في كل النصوص الدينية هناك مجال للاجتهاد،  ولكن قراءة منصفة للقرأن لا بد ان تقود الى الاستنتاج بأنه لا يدعو الى حروب دينية عدوانية بل الى الصلاة فقط ! ، ولذا يمكنك القول إني غيرت رأيي بالقرآن، ولذا لا اشعر اني اكتب بدافع الخوف، بل اشعر بأمكانية التوصل الى تفاهمات، اعترف بأن دعاة تحرر المرأة لا يستطيعون التوصل الى هذه التفاهمات، ولكن انا والكثيرين غيري يمكنهم ذلك) ، ووفي نهاية الرواية، يبدو ان بطلها فرنسوا قد توصل الى تفاهمات من هذا النوع فعلا،  فقد قرر العودة الى عمله كمدرس في جامعة السوربون المتأسلمة طمعا في راتب مرتفع واملا بالاقتران باكثر من زوجة وبعض الجواري مما تملكه يمينه .

وخلاصة القول : أن الروائي الفرنسي يتخيل تحالفاً سياسيا سيظهر يجمع بين حزب أسماه الاخاء الإسلامي، وأحزاب أخرى، بهدف الوصول إلى سدة الحكم، ولكن في اعتقادنا أن الرواية تحمل تناقضات عدة ، قد تعكس صراعاً فكريا يدور بين النخب السياسية والثقافية الفرنسية ، بين تيار رافض للمد الإسلامي وفي نفس الوقت يدافع عن القيم الفرنسية والتي تنادي بحرية الدين والتعبير ، وبين فكراً فرنسياً يحذر من تنامي الخطر الإسلامي على القيم الفرنسية برمتها ، وخير شاهد على ذلك قول ويلبيك ( ان عودة الدين تعتبر امرا جيدا - وبإنه لم يعد ملحدا ) ثم يعود ويقول ساخرا بعد صدور روايته ،( سأخسر أسناني في عام 2015، وسأصوم رمضان في عام 2022 !! ).



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد