الليل لا يضيء في اللاذقية - أحمد الشيخاوي

mainThumb

19-04-2015 09:31 AM

ليل اللاذقية يستمدّ استثنائه من انتسابه إلى هذه المدينة الأثرية العريقة الممتدّة جذورها إلى العصر الفينيقيّ وإذن ... فلنبحر جميعا في ظلال منجز ثري بالمفارقات ،ينم متنه الشعري عن طاقات نفسية خفية وقناعات راسخة كالتي يمتلكها المبدع الدكتور عبد الجبار الجبوري ،والمؤثثة لفضاءات القفز فوق الهمّ الشخصي والمحلي إلى العالمي والإنساني.
بديهي أنه في غياب المعاناة، ما من حديث على الإطلاق عن بيئة حاضنة لنبوءة ما/هنا، آلهة بديلة وإن جريحة ترعى أوطانا بديلة هي الأخرى ،منبعثة من طقوس خراب الراهن باعتبار الدمى( نخبة العبث الممسكة بخيوط المشهد السياسي القائم) من أبرز الأطراف المتسببة بتغلغله واستقطابه ونخره نخاع أجزاء جغرافية عريضة  من البلاد العربية.والحقيقة المرة  تكمن في كون الشاعر يود صرف اهتماماتنا إلى ما يذكي فينا فضولا معرفيا أو بالأحرى يعاود ممارسة ذلك الفعل ،ففيه محاولات التحريض على تحسسّ الجهات التي تتحمل المسؤولية تجاه تحريك هذه الدمى وفق ما يلبي مصالح ومكاسب تمليها رأسمالية متوحشة على حساب شعوب مضطهدة  طبعا.
الليلُ هناك نجمة...
نجمة أرسمهُا على رمال قلبي....،
بالوشم والقبلات...
وأشيلُ على كتفي أوجاعها...،
الراحلات...
أزين ضحكتها برفيف دمعي..
وأسرج لها ....،
خيلي المتعبات....

تأمّل هذه الوحدة يوحي بتناغم الذات الإبداعية مع المكونات الكونية ، من ثماره النفسية تحقيق نوعا من المصالحة مع الذات .
في العنونة أول مفارقة طريفة/الليل لا يضيء في اللاذقية، و "في " هذه للتبعيض ، فثمة أماكن أخرى تسبح في ظلام ثورات مميعة مزيفة زاغت عن أهدافها المرسومة  و مراميها النبيلة.
وكمفارقة ثانية،مطلع النص /الليل هناك نجمة . والمقابلة اللطيفة بين الضحكة(الفرح) والدمعة( الألم)،تشكل  ثالث مفارقة يتضمّنها النص /أزين ضحكتها برفيف دمعي .
الليل نجمة البعيد/وطن الشاعر المنتشي بلحظة تمزقه بين مدينة سورية مطفأة الليل و الأفق وقد شوهت ملامح ما يقترحه من أمل، جنائزية مشهد الوطن الميت .
الأمل كأنجع سلاح وعدة وعتاد لمجابهة هذا الزخم من الأوجاع والدماء . ولأن النجوم على علاقة مباشرة بزرع هكذا آمال في النفوس إبان التفشي المحموم للمحن  وتعاقب الأزمنة العسيرة، حدث هنا تنكيرها وإفرادها وتعريف الليل بها على نحو من النسبية المؤهلة لنقل الأحاسيس مغلفة بمصداقية وخصوصية تجربة مترعة بالرمادية والغضب والتشكيك، وهي سيميائية واشية بحدود التمايز والتفاضل بين كائن عادي محبط ضعيف سرعان ما يرفع راية الإستسلام وآخر صلبا مناضلا بأفكاره حالما بغد مشرق  قادم لا محالة كي يبدد كوابيس العتمة الآنية .
وهكذا يتضح لنا كيف أن الشاعر وحفاظا على وازع صعود المؤشر المعنوي لدى المتلقي، أفلح في إيجاد محاكاة طبيعية للتجربة الليلية /نجمة ، فبرع في خلع إسقاطات الليل على أجواء المحاكي تأجيجا للعناصر المشوقة والمرغبة في استكمال القصيدة حتى آخر حروفها.
هكذا يترسب في اللاوعي لدينا مسايرة شريط يستعرض تفاصيل المعاناة المتقاطعة مع الليل في قواسم مشتركة متنوعة نهتدي إليها عبر إدراكنا الواعي وقد تمت إسقاطاتها على مكون كوني(نجمة) مع مراعاة ضرورة الإبقاء على المنسوب المرتفع للمعنويات المحيلة على  القوة في المواجهة والتحدي والتعاطي الواعي مع تلكم المعاناة.

يا لهذا القلب المتعب الجريح....
كم خذلتك البلاد...
وكم خذلتك الدمعة ألأولى
وكم خذلتك الليالي المهاجرة....،
وأنت لا تبالي ...
كأنك جرح يصيح...
هي نزوة عابرة ...
أن تسبق الأمطار غيمة خاسرة...
فلا تبالي....
إن مات في الأفق وطن...
سينهض من دماك ألف وطن...
ولا تبالي...
إن حطموا هنا حجرا..،
وهناك قمر...
فسيولد ألف اله جريح...
هذه الوحدة مستهلة بأسلوب للتعجب إشفاقا ولهفة على قلب مخذول خانه التراب والليالي المخيبة للظنّ عقب توسم الأنس فيها و إمكانية التزود من خشوعها وغموضها وحلكتها بأسرار وجودية معينة على تجاوز أوجاع الصدمة التي يولدها الإحتكاك بواقع تفكيك وتفتيت دول وازنة في الجسد الكنعاني وقد تكالب عليه الأعداء والمرجفون من كل حدب وصوب .
حدّ عصيان الدمع يتباهى الشاعر بوطنيته القحة غير المنافقة أو الطامحة في إرضاء أنانية مريضة تستبيح الأرض والعرض، الرامية إلى غير ما ينطوي على عزة وكرامة كل مواطن عربي ،بل للإنسان حيثما حل وارتحل.
أبدا لن يذبل أو يشيخ أو يموت أمل تقترحه نجمة ليل  يحجب عوالم تتغذى من الذاكرة والموروث لتخصيب رؤيا قلبية  متشبعة بثقافة شعبية مبشرة بأوطان بديلة كفيلة بتلبية تطلعات شعوب الفوضى والدمار والترهيب والتشريد  وشتى صنوف الممارسات التعسفية والهمجية البغيضة.

هي الأرض مثل الأرض...
تنمو على يديها الرياح...،
ولا تشيخ...
أنت سماء روحي...
وأنت عشبة قلبي
تعالي ارسمي على شغاف نهاري الذبيح...
صورة المطر...
فأنا منذ خلقت الدروب أبكي نجمة ..،
تسكن في قلبي ...،
ولا أراها...
تعزف ألحان حبي...،
ولا أراها...
تكتب أشعاري ولا أراها...
توقظني...
كل يوم ..
ارتشف من شفتيها قبلات الصباح ..
ومن يديها قهوة الصباح
ومن عينيها نشيد الجراح...
تعالي على صهوة الليل..
كمهرة ضلت الطريق إلى قلبي...،
وعاندتها الرياح...
أعرف أن الليل ...
لا يضيءُ في اللاذقية الآن...
لأنك لست معي ..
لهذا فانا ثمل بك...
أرتشف خمرة الغياب
من بحة صوتك التي تجيء محملة بالقبل...
وأحبك....
على قائمة الرسائل الممررة عبر ثنايا هذه الوحدة الشعرية المختتم بها النص، ثمة استحواذ الحس الوطني  على ذهن الشاعر مرورا بكل جوارحه/تكتب أشعاري.../ ومن يديها... /ومن عينيها... /أرتشف من شفتيها قبلات الصباح إلخ...
الشيء الذي يمنح الشاعر تساميا خاصا على الإنفعالات وليدة ضغوط واهية ما تنفك تخمد وتضمحل .  تساميا و ارتقاء معرفيا وجماليا إلى مستويات البصيرة المتقدة التي يؤطرها الوازع الإنساني و  الإلمام الشمولي بأبعاد السرطان الملم بجغرافية عربية شاسعة .
إنها وطنية حقيقية  بنكهة خمرة الغياب، الإنتشاء بها يسمو بالوجدان ليضعه في مستوى آيات رؤيا مقروءة في صفحات نجمة ) معوضة عن النقص والفراغ الذي تخلقه حالة نفسية ما /شعورا غرائبيا من نسج مدينة جارة  مكلومة هي الأخرى ليلها  لا يضيء)  نجمة لا مرئية وطنها القلب مُبكية مذ أول خطوة في متاهات البوح تضميدا لجراحات طعننا في هويتنا وسلبنا ثروات وأمن واستقرار أوطاننا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد