فلسطين تستدعي نموذج جنوب أفريقيا - ماجد كيالي

mainThumb

26-05-2015 12:40 PM

حلت الذكرى الـ 67 لقيام إسرائيل هذا العام، وهي تبدو الدولة الأكثر استقراراً في المنطقة، لا سيما بالنظر إلى تصدع أهم دولتين فيها، هما سورية والعراق، على رغم كونها دولة مصطنعة، ما يفيد أن الدول الأخرى لا تقل عنها اصطناعاً، مع ملاحظة الاختلافات الأساسية المجتمعية والتاريخية.


ولعل هذه المفارقة تحث على التفكير بمراجعة كثير مما يعتقد أنه بمثابة بديهيات أو ثوابت تتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن ضمنه نظرتنا إلى ما نعتبره مآلات هذا الصراع وأشكال حله، بالقياس إلى مصائر تجربة باهظة، عمرها قرابة سبعة عقود، مع كل إخفاقاتها، وبالنظر إلى كل التطورات العاصفة في المشرق العربي.


على ذلك فإن الفلسطينيين تحديداً معنيون اليوم بمراجعة خطاباتهم وأشكال عملهم على ضوء كل ما يحصل من حولهم، فمن غير المعقول التصرّف وكأن شيئاً لم يحصل، أو كأن موازين القوى، في الصراع مع إسرائيل، ما زالت على حالها، وكأن العمق العربي ما زال هو ذاته، على صعيد المجتمعات والحكومات، والجيوش والإمكانات. وقد يجدر التذكير هنا بأن الفلسطينيين اللاجئين في سورية ولبنان والعراق الذين طالما انتظروا العودة إلى فلسطين، باتت وجهة أعداد كبيرة منهم إلى أوروبا وغيرها، بعد أن تفككت مجتمعاتهم بتأثير الحروب الأهلية، وبالنظر إلى الضغوط الهائلة التي يتعرضون لها، مع كل الاحترام لحماسة بعض مسؤولي الفصائل الذين يروجون لاقتراب التحرير ويدعون اللاجئين لحزم حقائبهم للعودة إلى فلسطين. كما قد يجدر التذكير هنا أن الحروب الثلاث التي خاضها الفلسطينيون في غزة في غضون الأعوام الستة الماضية، مع كل التضحيات والبطولات التي بذلت فيها، لم تثمر شيئاً، على مستوى رفع الحصار، ومن ضمنه فتح معبر رفح، أو السماح لصيادي الأسماك بالوصول إلى المسافات اللازمة لهم بحسب المعايير الدولية، ولا حتى بالنسبة إلى إعادة الإعمار.


في هذا الإطار لا تفيد شيئاً الادعاءات التي تتحدث عن زوال إسرائيل، والعالم العربي على هذه الحال، لأنها تصدر عن جهات غير مسؤولة، أو تتوخى المزايدة، وهو ما ينطبق على تصريح يحيى رحيم صفوي (المستشار العسكري للمرشد الأعلى في إيران) الذي اعتبر أن «إيران يمكنها أن تسوي حيفا وتل أبيب بالأرض في حال اعتدت إسرائيل عليها»، كما تصبّ في هذا الإطار بعض التصريحات التي تصدر عن بعض مسؤولي الفصائل الفلسطينية.


ليس القصد من ذلك التسليم بواقع إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وإنما القصد إدراك الواقع المتغير والصعب والمعقد الذي يتعامل معه الفلسطينيون، لتدارك التدهور في أحوالهم، ووقف النزيف في مجتمعاتهم، والتآكل في حركتهم الوطنية.


وفي الواقع فقد ظل الفلسطينيون ينظرون إلى صراعهم مع إسرائيل وفق محددات معينة، من دون أي مراعاة لموازين القوى، ولا للمعطيات العربية والدولية غير المؤاتية لهم. وحتى عندما تحولوا نحو ما اسموه بالواقعية، في طرحهم لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع، فإن هذا التحول لم يأخذ في اعتباره قدرة إسرائيل على تجويف هذه الفكرة وتحويلها إلى منصة لتفكيك قضيتهم، واختزال شعبهم، وهو ما حصل، لا سيما بسبب الطريقة التي أدير بها الصراع التفاوضي مع إسرائيل، وعدم الاهتمام ببناء البيت الفلسطيني الداخلي (المنظمة والسلطة والفصائل) على أسس سليمة.


بمعنى آخر فإن الفلسطينيين لا يقفون إزاء المفاضلة بين خياري التحرير أو الدولة المستقلة، أو بين خياري الكفاح المسلح أو المفاوضات، علماً أن كلاً من هذه الخيارات تفتقد الدراسة والإجماع كما البنى المناسبة لحملها، ناهيك عن افتقادها الإمكانيات. هكذا، فأصحاب خيار التحرير والكفاح المسلح، وعلى ضوء تجربة العقود الماضية، يجدون أنفسهم في إطار ارتهانات لدول معينة، تقيد قدراتهم، أو توظفها في غير وجهتها، والأمر ذاته يتعلق بأصحاب خيار المفاوضة والتسوية، الذين يجدون أنفسهم، بحسب التجربة أيضاً، في فخ الارتهان للشروط والإملاءات الدولية.


بيد أن هذا الاستنتاج لا يعني القطع مع أي خيار، لا الكفاح المسلح ولا المفاوضة ولا الانتفاضة ولا المقاومة الشعبية، وإنما يعني أن أي خيار ينبغي أن يفتح على الخيارات الأخرى، وأن يبنى على رؤية واقعية لإسرائيل، ولواقع الفلسطينيين، وأيضاً للمعطيات المحيطة.


وجهة النظر هذه، ووفقاً للمعطيات السائدة، تفتح على إمكان التماثل مع تجربة جنوب أفريقيا في إنهاء نظام الفصل العنصري، من كونها اعتمدت على الإمكانيات الذاتية للأفارقة، وعلى التعاطف الدولي، واستخدمت استراتيجية التحويل، بدلاً من استراتيجية التحرير، وهو ما تم إنجازه في عام 1993 بتفكيك نظام الفصل العنصري، والتحول نحو دولة المساواة القانونية بين المواطنين، وقيام نظام ديموقراطي تمثيلي، بات فيه السود يحكمون البلد. ومعلوم أن ذلك لم يكن ليتم لولا الدعم والتعاطف الدوليين، اللذين أديا إلى عزل النظام العنصري، ولولا بروز طرف بين البيض اتجه نحو الاعتذار والاعتراف بحقوق الغالبية، ما أمن عناصر المصالحة.


وربما أن تجربة المستوطنين الهولنديين (البوير) والبريطانيين في جنوب أفريقيا هي الأكثر قرباً من التجربة الإسرائيلية، لجهة الافتقاد إلى وطن أمّ، بالقياس إلى تجربة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، الذين كانت فرنسا وطنهم الأمّ، إذ أن الحالة الاستيطانية في جنوب أفريقيا كانت أخذت مساراً مستقلاً عن هولندا وبريطانيا، منذ أكثر من قرنين، بل إنها بالذات هي التي أسهمت في إنشاء الكيان السياسي المعروف اليوم باسم جمهورية جنوب أفريقيا.


طبعاً، ليس القصد هنا المماثلة، وإنما لفت الانتباه إلى أن الواقع لا يسير وفق نماذج مسبقة أو وصفات معينة، كما لا يسير بحسب الرغبات، إذ ثمة عوامل كثيرة تدخل في ذلك، منها موازين القوى العسكرية، والمعطيات العربية والدولية، وحالة المجتمع المعني، وبالتالي فهذا يفيد بأن التجربة الفلسطينية ليست محكومة بالضرورة بمسار معين، بل إن الواقع الجاري هذه الأيام، لا سيما في منطقة المشرق العربي يؤكد ذلك.


هذا يعني أنه ينبغي استثمار جوانب العطب في إسرائيل، بدل التركيز على نقاط تفوقها، أي الصراع العسكري معها، الذي لم يسهم سوى في تعزيز قوتها، وترسيخ وحدة مجتمعها، في مقابل استنزاف قدراتنا وإضعاف مجتمعاتنا، على النحو الذي وصلنا إليه.
ثمة نقاط ضعف كثيرة لإسرائيل، فهي لديها، أولاً، مشكلتها مع ذاتها، كدولة يهودية لكل يهود العالم، وليس لمواطنيها الإسرائيليين فقط. وثانياً، فهي تتنازعها الصراعات بين كونها دولة دينية أو دولة علمانية. وثالثاً، ثمة التناقضات فيها بين الشرقيين والغربيين كما بين المستوطنين الجدد الروس والمستوطنين القدامى. ورابعاً، تبقى مشكلاتها مع الفلسطينيين، سواء كانوا من مواطنيها أو الفلسطينيين في الضفة والقطاع.


عدا هذه التناقضات الداخلية ثمة مشكلة إسرائيل، كونها تعيش في منطقة غالبيتها عربية، في عدم قدرتها على التصالح مع محيطها. وعلى الصعيد الدولي أضحت إسرائيل بمثابة عبء على الغرب، وعلى الولايات المتحدة، بسبب سياساتها الاحتلالية والعنصرية، ما يفسر إشارات الاستفهام التي باتت تطرح من حولها، في مجتمعات الدول الغربية ذاتها، وحتى في حكوماتها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا عن إسرائيل في حال اختلفت المعطيات الدولية؟ وماذا إذا تحول مركز اهتمام الإدارة الأميركية من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا؟ أو في حال انتقال مركز الثقل العالمي إلى الصين أو الهند، مثلاً؟ حتى من وجهة نظر تاريخية فإن تجربة إسرائيل ستبقى موضع شك، فهذه تجارب الاستعمار الاستيطاني انتهت في الجزائر بعد 13 عقداً، وفي جنوب أفريقيا بعد قرنين، وهذه امبراطوريات (الاتحاد السوفياتي مثلاً) تفككت وانهارت، ناهيك عن إخفاق الحروب الصليبية.


والحال، فإذا لم تفلح استراتيجية التحرير والكفاح المسلح، ولا استراتيجية الدولة المستقلة والمفاوضات، يبقى من المهم فتح كل الخيارات، ومن ضمنها انتهاج استراتيجية التحويل، بما فيه التحول من فكرة الصراع على الأرض، أو جزء من الأرض، إلى الصراع على حقوق البشر، أي على حقهم في الحرية والمساواة والعدالة والكرامة والمواطنة، سواء في دولة واحدة ديموقراطية وعلمانية أو غير ذلك. ففي هذه المجالات لن تفيد إسرائيل قوتها العسكرية، ولن تستطيع كسب تعاطف العالم معها، كما لن تملك ما تضر به الفلسطينيين، علماً أن أي تطور في هذا المجال سيبقى مرهوناً أيضاً بالتطورات في المنطقة وبالمعطيات الدولية، ناهيك عن التطورات عند الفلسطينيين والإسرائيليين.
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد