( ولكنَّ البلادَ إذا اقْشَعَرَّتْ .. وَصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيْمُ )

mainThumb

27-05-2015 11:57 AM

بيتان من الشعر يُسْتَشْهدُ بهما في موطن غياب الفحول ، وتصَدُّر ابنِ اللَّبون ، وقد ينوب عن هذين البيتين أمثلةٌ يستعملها العلماء إذا رأوا ظهور الأسافل ، وخمولَ البهاليل ، ومن الذين أكثروا من ضرب هذه الأمثال العلامة المحدث الألباني  - رحمه الله – فكان إذا رأى متعالما في علم الحديث دمغَه بهذا المثل :
( إنَّ البُغَاثَ بأرضِنا يَسْتَنْسِرُ ) ، و ( تَزَبَّبَ قبل أن يتحصْرَمَ ) ، و ( طار قبل أن يَرِيْشَ ) .

ومن تتبعي لهذا العلامة الألباني وجدتُ له اهتماما بالأمثال العربية سواءً الفصيحة أو العامية وهذا يَدلُّ على أمرين :

1 – سَعَةُ اطِّلاعِه على هذا الصنف من العلوم ( علم الأمثال ) .

2 – وأيضا دليلٌ على تجارُبِهِ الطويلة ، فقد عَضْعَضَتْهُ الأيامُ والليالي ، حتى مالتْ نفسُه لترديد ما يُعَبِّرُ عن هذه التجارب ، لأن الأمثال هي ظرفُ تجارب الأمة من غابر السنين ، ففي كل معنى وضعوا مثلاً كي يستفيدَ اللاحقُ من السابق .

وقد جاء بيتان يحملان نفسَ المعنى الذي أشرتُ إليه في مقدمة المقالة ، والبيتان هما لأبي عليٍّ البصير في رجلٍ اسمُهُ ( المُعَلَّى بن أيوب ) كان كاتبا للخليفة المتوكل ، وقد ترجم له الامام الذهبي في تاريخ الاسلام ترجمةً لا بأس فيها .

والبيتان أكانا مُصيبين أو غير مصيبين في المُعلى بن أيوب ، ولكن الهدف من ذكرهما حول الاشارة الى سيادة الأسافل ، وخمول الأشراف ، قال أبو علي البصير :

لَعَمْرو أبيكَ ما نُسِبَ المُعلَّى
..... إلى كَرَمٍ وفي الدُّنْيا كَرِيْمُ

ولَكِنَّ البلادَ إذا اقْشَعَرَّتْ
..... وَصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيْمُ .

فبدأ الشاعرُ بالقسم ب ( العمر ) وهذا مُسْتَثنى من تحريم القسم بغير الله ؛ لِوُرُوده في الأحاديث وقد نطق به بعض الصحابة والسلف ، وللمحدث حماد الانصاري – رحمه الله – رسالةٌ في جواز النطق بهذا القسم ( لَعَمْرِي ) ، وهي رسالةٌ ماتعةٌ .

والقسمُ يأتي لِتَأكيدِ المُقْسَمِ عليه ، وتثبيتِه في سمع السامِعِ ، فأبو علي البصير يريد أن يقرِّرَ في الأذهان أن المعلَّى ليس من أهل الكرم ، والجود .

ثم استعملَ ابو علي البصير الفعلَ ( نُسِبَ ) وهو فعلٌ لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، وقد أطلق عليه ابنُ مالك : ( الفعل المبني للمجهول ) ، وفيه دليل على تجهيل الناسبين الكرمَ للمعلَّى .

فَلِخُلُوِّ الدنيا من أهل الكرم ، أصبح المعلَّى بن ايوب ؛ يُنْسَبُ الى الكرم ، وهذا قمَّةُ الاسقاط والتحقير والهجاء ، ثمَّ اختار ابو علي البصير صورةً تُؤكِّدُ هجاءَهُ للمعلَّى وادِّعاءَهُ الكرم .

فالبلادُ اذا أَخْصَبَتْ عمَّ الخيرُ وانتقى الناسُ أطايبَ المراعي لِأنْعامِهم ودوابِّهم ، ولكنْ اذا جاء القحطُ والمحلُ تسابق الناس الى رَديء المرعى لعدم تَوَفِّر غيرِهِ ، فاستعمل ابو علي البصير أفعالاً تؤكِّدُ الجَدْبَ مثل ( اقْشَعَرَّتْ ) ، وهذا الفعل خَيْرُ ما اسْتُعْمِلَ هنا لِيُبْرِزَ الصورةَ الجَدْبيَّةَ وما يترتَّبُ عليها في حقِّ الناس .

ومن معاني ( اقشَعَرَّ ) اي لم ينزلْ المطرُ ، ومن معانيه ( اليُبْس ، والتَّقَبُّضُ ) وهذا من نتائج غياب المطر وامتناعِهِ ، وأيضا نقولُ : ( أقشَعَرَّ فلانٌ لِسماع خبرٍ ما ) أي أصابَتْهُ رعدةٌ ورجفةٌ هَزَّتْ جلدَه وبدنَهُ ، فالفعل ( اقشعَرَّ ) مُفْعَمٌ بالدلائل التي تجعلُكَ تعيش وتستشعرُ كلَّ معانيه !
 
وقد جاء في محكم التنزيل : ( اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .

ثم ذكر ابو علي البصير ( صوَّحَ ) وهو يُبْسُ العشبِ وتشققُهُ من قلَّة المطر واشتداد الحر ، والتشديد في حرف الواو يُشْعِرُك بذلك .

فإذا كانت الأمطارُ معدومة والأرض مُقْشَعِرَّةٌ والعشبُ يابِسٌ ، فإن الرُّعاةَ يرعونَ الهشيمَ من الأعشاب لغياب النَّضِرُ من مثيلِهِ .

فهذه الصورة الحسيَّة في القحط والجدب الذي خَيَّمَ على الارض حتى دَعى الناسَ أن يبحثوا عن رديء المرعى ( الهشيم ) ، هي التي جَعَلت المعلى بن ايوب يُنْسَبُ الى الكرمِ كما نُسِبَ ( الهشيم ) الى المرعى !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد