حتى لا تضيع منظمة التحرير - علي بدوان

mainThumb

27-05-2015 01:29 PM

قبل 51 عاماً، وبالتحديد في 28 أيار (مايو) 1964، نَجَحَ المرحوم أحمد الشقيري، في حضور الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال في ترتيب أعمال المجلس الوطني الفلسطيني الأول في دورة اجتماعاته التي عقدت داخل القاعة الرئيسية في فندق «أنتركونتننتال» بمدينة القدس، بعد تحضيرات واسعة وخطوات تمهيدية بدعم كامل من الرئيس جمال عبدالناصر، وفي حضور أكثر من مئتي عضو يُمثلون التجمعات الرئيسية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والشتات، مُعلناً تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني ويحمل طموحاته وتطلعاته الوطنية.


المؤتمر الذي تحوّل إلى البرلمان الموحد لكل الشعب الفلسطيني، شكّل بالمشاركة الواسعة فيه الاجتماع الفلسطيني الأول لممثلي ومندوبي كل تجمعات ومواقع الفلسطينيين، بعد أن انهارت وأُجهضت عربياً تجربة حكومة عموم فلسطين التي أُعلن عن قيامها في تشرين الأول (أكتوبر) 1948 في قطاع غزة من جانب مفتي فلسطين المرحوم الحاج أمين الحسيني، وأحمد حلمي عبدالباقي، فكان انعقاد الدورة الأولى للمجلس التأسيسي بمثابة المدماك الأول على طريق إعادة بناء وبعث الكيانية الوطنية الموحدة لعموم الشعب الفلسطيني بعد حالة الانهيار والتبديد والاقتلاع الوطني التي تَعَرَضَ لها بعد نكبة عام 1948، فكان قيام منظمة التحرير في إطار المؤسسة الرسمية العربية وبترحيب منها آنذاك، يُمثّل الحد الأدنى من واقع الاستجابة المُباشرة والعملية لحالة قائمة ونامية في الوضع الفلسطيني بعد النكبة، حيث كانت التطورات والتفاعلات في مناطق الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وحتى داخل المناطق المحتلة عام 1948، وعموم مواقع اللجوء الفلسطيني، تؤشر إلى مجموعة من الحقائق التي تُنذر بالمخاض العسير لولادة حاضنة وطنية في سياق إعادة التأسيس لقيام المشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني.


وبالتأكيد، فإن نظرة موضوعية ومُتفحصة تشي بأن مسار ومسيرة منظمة التحرير لم تكن على نسق مُتكامل من النهج والبرنامج والاشتقاقات، ومن الرؤية والتكتيك منذ تأسيسها، فانتقلت المنظمة عبر مسيرتها من مفترق إلى آخر، وبالتداخل مع تشابكات الحالة العربية والإقليمية، والتداعيات السلبية التي رافقتها، وما فرضته من انتكاسات وأخطاء وخطايا، كانت في لحظات معينة أخطاء قاتلة أصابت في الصميم المشروع الوطني الفلسطيني.


تركيبة المنظمة بقيت تراوح مكانها من دون تطوير لصيغتها الائتلافية، حيث طَغَت على تركيبة وبناء مؤسساتها طريقة «المحاصصة» المُتخلفة وغير الديموقراطية، أو ما يُعرف في الساحة الفلسطينية بـ «الكوتا»، حيث أزيحت مسألة انتخاب اللجنة التنفيذية للمنظمة مُباشرة من جانب المجلس الوطني لمصلحة التوافق بين الفصائل على حصة كل منها، وتمت الاستعاضة عن الانتخابات المباشرة لعضوية المجلس الوطني من خلال مبدأ التعيين وفق الحصص المُحددة لكل فصيل، فبات منطق «الكوتا» هو السائد عملياً في تحديد عضوية المجلسين الوطني والمركزي، إضافة إلى اللجنة التنفيذية واختيار أعضائها، وذلك منذ الدورة الرابعة للمجلس الوطني التي عُقدت في شباط (فبراير) 1968، إثر تسلم الفصائل الفدائية قيادة المنظمة من مؤسسها الراحل أحمد الشقيري. وعليه، غالباً ما تمت عملية «الكوتا» على أساس التوافق والتراضي بين جميع الفصائل، مع الاتفاق على عدد من المستقلين الذين كانوا في أغلب الأحيان من الموالين أو المقربين من حركة «فتح». ولولا هذه العملية لما كان بالإمكان وصول أي ممثل أو مندوب لبعض الفصائل إلى عضوية اللجنة التنفيذية، في إطار منظمة التحرير أو أي من مؤسساتها كالمجلس الوطني والمجلس المركزي. والأدهى من ذلك أن أسلوب «الكوتا» والمحاصصة ترافق مع الإغراق المتواصل لعضوية المجلس الوطني من دورة إلى دورة تالية بعشرات الأعضاء ليصبح تعداد المجلس الوطني حوالى 800 عضو.


في هذا السياق، من المؤلم أن تترافق ذكرى تأسيس منظمة التحرير مع استمرار الانقسام الكبير في الساحة الفلسطينية، وأن تتواصل معها عملية تهميش منظمة التحرير، حيث تم إضعاف مرجعية المنظمة لمصلحة مؤسسات السلطة، وتم خلط السلطة الفلسطينية مع قيادة المنظمة، وانتُزعت من المنظمة صلاحيات التمثيل الخارجي، والصندوق القومي الفلسطيني، وحلّت الوزارات المختلفة محل دوائرها جميعها، عدا دائرتي اللاجئين والعلاقات القومية اللتين أبقيتا على قيد الحياة حياءً ولكن من لون واحد.


إن حالة التهميش والتفكك التي تعاني منها منظمة التحرير ومؤسساتها كافة منذ عام 1993 عقب توقيع اتفاق أوسلو الأول لإعلان المبادئ، وتحولها إلى منظمة شكلية، وإغراق المجلس الوطني بأكثر من 800 عضو ليصبح أكبر برلمان في العالم لشعب لا يتجاوز تعداده 12 مليون نسمة، فضلاً عن تعويم المجلس المركزي للمنظمة وهو الهيئة الاستشارية الوسيطة بين اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني، حول هيئات منظمة التحرير إلى هيئات شكلية، لا دور حقيقياً لها في صياغة السياسة العامة للمنظمة، فتراجع الإطار الائتلافي المشترك.


وفي حقيقة الأمر، لم يَشغل الساحة الفلسطينية موضوع مُستدام منذ سنوات طويلة كالعنوان المتعلق بمنظمة التحرير وأوضاعها ومؤسساتها في شكل عام. فقد مضى عقدان ونيف من الزمن وما زالت ترتفع الأصوات في شكل متواصل من داخل فصائل المنظمة والقوى التي تتشكل منها، ومن حناجر الكثير من الشخصيات التاريخية التي لعبت دوراً مهماً في تأسيس وبناء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، من أجل إعادة النظر في أوضاعها وانتشالها من سباتها العميق.


ومع صدقية أصحاب هذه الدفوع وسلامة دعواتهم، إلا أن أصواتهم التي بحّت لسنوات طويلة ظلت بلا أصداء حقيقية وبلا فعل ملموس، ففشلت محاولات انتشال المنظمة وإفاقتها من غيبوبتها الممتدة، وكانت النتيجة هي استصغار وإهمال أوضاع المنظمة على حساب بروز دور السلطة الفلسطينية في تقرير وصياغة الشأن الفلسطيني على المستوى الرسمي العربي والدولي.


وعلى كل حال، فإن النقد القاسي لأوضاع منظمة التحرير ولحالة التهميش التي تَعرضت لها كل مؤسساتها، لا يعني إهالة التراب عليها، ولا يعني أيضاً الحديث عنها بشماتة، بل إن الحديث عنها وعن أوضاعها يَنبع من الحرص عليها باعتبارها الإطار المرجعي لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.


كما لا يعني النقد القاسي والجذري أن نطلق السهام لتدميرها أو وأدها. فالشعب الفلسطيني لا يملك تَرف بناء الكيانات السياسية وهدمها واستبدالها أو الإكثار أو الإقلال منها بمجرد الإرادة الذاتية. فبمقدار ما كانت المنظمة إنجازاً وطنياً جامعاً تلح الضرورة الآن من أجل حمايتها من الضياع ومن أجل إعادة تصحيح أوضاعها في شكل جذري، والانتقال من التذمر والنقد الكلامي إلى انتهاج مواقف عاقلة، تغادر فيها جميع القوى منطق التمسك بالمكاسب الذاتية الفئوية لهذا الطرف أو ذاك، واعتماد قاعدة انتخابية ديموقراطية من خلال إجراء انتخابات عامة لمجلس وطني فلسطيني توحيدي حيثما أمكن، بحيث تتمثل القوى السياسية والمجتمعية في فلسطين والشتات وفقاً لوزنها في الشارع الفلسطيني عبر القياس المدروس من خلال صندوق الاقتراع، وبالتالي مغادرة منطق المحاصصة القديم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد