المعارضة على مقياس ريختر - مرح البقاعي

mainThumb

27-05-2015 01:30 PM

منذ 4 آب (أغسطس) 2011 الذي سجّل لقاءنا الرسمي الأول والموسّع مع رأس الديبلوماسية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون، وحتى لقائنا أخيراً في 25 آذار (مارس) 2015 مع جون كيري وزير الخارجية الأميركية الحالي، تواترت أربع سنوات عجاف فقد الشعب السوري خلالها ربع مليون روح بينما هُجّر حوالى سبعة ملايين رجل وامرأة وطفل عن ملاذهم في سورية. وقد شهدت العلاقة الأميركية مع المعارضة السورية خلال هذه السنوات الأربع مساراً تنازلياً لعل من أهم سماته تراجع الوعود بإمداد المعارضة المقاتلة المعتدلة، كما اصطفاها الغرب، بما يلزمها من سلاح لمواجهة الآلة العسكرية النظامية العاتية، واقتصر الدعم الذي لم يصل حتى تاريخ كتابة هذه السطور على اختيار بضع آلاف من مقاتلي المعارضة سيقوم البنتاغون بتدريبهم على الأراضي التركية، ولكن لمواجهة مدّ «الدولة الإسلامية» حصراً.


وقد بلغ مقياس ريختر لهزّات المعارضة ومستوى تراجع علاقتها بداعميها الدوليين، ولاحقاً الإقليميين، درجة الخطر حين تمّ تجفيف معظم مصادر التمويل لأكبر الأجسام المعارضة حجماً وهو الائتلاف السوري، إلى مستوى اضطر قيادته لقطع الرواتب عن مكاتبه والطلب من العاملين فيها التحوّل إلى العمل الطوعي الذي كان، على أي حال، مطلبنا منذ البدايات حرصاً منّا على ألا تتحول الثورة إلى مصدر للارتزاق المادي أو أن تجنح غاياتها نحو تحقيق الانتفاع الشخصي.


عندما التقينا السيدة كلينتون كانت ظروف الثورة مختلفة تماماً، وكان السفير روبرت فورد قد وصل من سورية لحضور اللقاء الرسمي بالمعارضة في واشنطن بعدما شهد التظاهرة السلمية الحاشدة في ساحة العاصي بحماة في 8/7/2011، ولم تكن يومذاك في حوزة المعارضة إلا أغصان الزيزفون واللافتات ذات الشعارات الوطنية الليبرالية والحقوقية بامتياز، والتي لم تكن لتحمل في لغتها أو فكر أصحابها أي توجّه ديني أو فئوي أو طائفي متشنّج، أما الرصاص الحيّ فكان يأتي من جهة النظام حصراً.


كانت حماسة كلينتون ومجموعتها لدعم الثورة، سياسياً ولوجيستياً وتقنياً أيضاً، أول ما طرحتْه على طاولة المحادثات. كانت خططها واضحة: الدعم السياسي والتقني (في شؤون الاتصال والإعلام) ثم العسكري مع الحاجة إلى الانقلاب من الحراك السلمي إلى المسلّح. أذكر يومذاك أنني أخبرتها عن انقطاع رسائل «الميسنجر» بصورة متزامنة بيني وبين الزميلة سهير الأتاسي في دمشق نتيجة قرصنة تعرضنا لها في آن واحد، فطلبت كلينتون على الفور تشكيل مجموعة دعم وحماية لأمن وسائل الاتصال وسلامتها بين المعارضة في الخارج وثوار الداخل، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت وسيلتنا الوحيدة الآمنة للتخاطب مع الداخل، ومنع أية محاولة مما سمّي في حينه جيش النظام الإلكتروني لاختراق حساباتنا. والجدير بالذكر أن الملف السوري الذي أرادت دعمه بكل قوة وحماسة، وبإرادة سياسية عالية، كان في مقدّم أعراض خلافها المزمن مع الرئيس باراك أوباما، كون الرياح السياسية في البيت الأبيض كانت تسير بما لا تشتهيه سفن الخارجية الأميركية.


هذا كان في 2011، لم تكن في حينه الأسلحة قد تسرّبت إلى صفوف الثورة، ولا الدول الإقليمية دسّت أصابعها لتوجيه الزناد بما تقتضيه مصالحها في سورية، ولم يكن المتشدّدون الإسلاميون أُطلق سراحهم من السجون السورية تزامناً مع نظرائهم الذين أخرجهم مالكي العراق من سجن أبو غريب ليشكّلوا معاً مجموعات قتالية عقائدية متطرفة وجدت بيئة جاهزة لها في الخاصرة الأضعف من شمال سورية، حيث انتهت إلى إطلاق عنان دولة «داعش» بعدما فشلت في تشكيلها في العراق إثر الخروج الأميركي الكبير منه. الأعتى من هذا أن حركة التجييش المذهبي السنّي - الشيعي لم تكن اتخذت صورة الأمر الراهن لنزاع هو نتيجة حتمية لتاريخ صرخة ترقد تحت الرماد منذ نيف و1400 عام.


في 2015، السنة الخامسة من عمر الثورة أو ما نجا منها، كان لقاؤنا الرسمي مع وزير الخارجية جون كيري في ساعة مبكّرة جداً من صباح 25 آذار، في مكتبه، وقبيل إقلاع طائرته إلى لوزان السويسرية للتوقيع في اليوم نفسه على اتفاق الإطار النووي بين إيران ودول 5 + 1، بريادة أميركية طبعاً. وعندما كان يشير إلى ضرورة التحوّل إلى الحل السياسي الذي لا وجود للأسد فيه، دافعاً عن نفسه تأويلات الإعلام في لقاء له مع محطة إن بي سي الأميركية حين قال ما مفاده: «في النهاية يبدو أن علينا أن نتفاوض مع بشار الأسد»، قلت له: «أمس، وبدافع الفضول السياسي، كنت أشاهد الأخبار الرسمية السورية من القناة الحكومية السورية في دمشق، واسمح لي أن أسرد بعجالة ما رأيت: الخبر الأول في النشرة تحدّث عن انتصارات كتائب قاسم السليماني وتفوقها في حماية المقامات المقدّسة في الشام، والخبر الثاني عن إنجازات حزب الله في محاربة التكفيريين، أما الثالث، وقد ورد بتواضع واقتضاب شديدين، فعن تحركات بشار الأسد التي بدأت تقتصر على ساحة قصر الشعب في حي المهاجرين وقاعاته وحدائقه»، وتابعت: «سؤالي الآن يا سيد كيري، إذا كان علينا إعادة إحياء مسار المفاوضات مع النظام فمن سنفاوض برأيك، بشار الأسد أم الرأس الأمني والعسكري الإيراني الذي يحتلّ القرار السيادي ويدير الحروب من دمشق، قاسم السليماني؟!».


شزرني كيري بنظرة باردة لا ماء فيها، ولم يجب، واستمر متابعاً وموجّهاً بضرورة تصويب عمل المعارضة الذي بدأ يأخذ مساراً فوضوياً ومنقسماً على نفسه وفق رأيه، والاستعداد للعودة إلى طاولة جنيف. لكنه، قبل أن يغادر قال بحزم وبنظرة برق فيها الماء بعينيه: أريد أن أذكّركم بأن وزير الخارجية الإيراني، السيد ظريف، رجل براغماتي جداً!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد