الجار ثم الدار .. توصية أخلاقية أم ضرورة إستراتيجية - محمد جواد ظريف

mainThumb

03-08-2015 09:48 AM

 في تقاليدنا العريقة وفي ديننا الإسلامي الحنيف (الذي يجمعنا معاً) توصية حكيمة تقول: الجار ثم الدار، وهي توصية أخلاقية ذات رؤية عميقة، وصلتنا عبر القرون، وباتت ضرورة لا يمكن انكارها في عالمنا المعاصر؛ إن الرفاه والأمن يتحققان فقط في البيئة التي يمكن ان تحظى بهاتين النعمتين العظيمتين.

 

إن أولى أولويات إيران منذ البداية، هي أنها تنشد علاقات طيبة ووطيدة مع جيرانها، وهذا ما أُعلن عنه بصراحة وتمت متابعته على الأخص منذ تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة، وان جولتي الإقليمية إلى ثلاث دول جارة هي الكويت وقطر والعراق مباشرة بعد حصول الاتفاق النووي التاريخي بفيينا بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، إنما جاءت تأكيدا لهذه الإستراتيجية التي توليها السياسة الخارجية الإيرانية اهتمامها.
 
إن منطقتنا في الوقت الراهن تمر في اضطرابات، وتواجه مخاطر جدية تهدد أسس المجتمع والثقافة فيها. ومع ان إيران التي تعتمد على شعب يمتاز بالمرونة والصمود في مواجهة النزعة السلطوية، تعيش بفضل الله في استقرار وأمن، وقدمت آفاقا جديدة عن التعامل البناء، فإنها لا يمكنها الوقوف موقف اللامبالاة امام الدمار الهائل في أطرافها، سيما وأن التجربة تقول لنا إن الفوضى والاضطرابات لا تعرف حدوداً، وانه من غير الممكن ضمان أمن أي بلد في بيئة مضطربة بهذا العالم السائر نحو العولمة.
 
إن اتفاق فيينا كان بداية ضرورية للمنطقة، فهو ليس فقط لا يشكل اي ضرر لجيراننا، بل انه مكسب لمنطقتنا برمتها لأنه وضع نهاية لتوتر كنا في غنى عنه دام اثني عشر عاما، هدد المنطقة أكثر من غيرها، وقد حان الوقت للتفرغ إلى أعمال أهم وفي مقدمتها البحث عن آليات، تساعد جميع بلدان المنطقة على اجتثاث جذور وعوامل التوتر وغياب الثقة فيها.
 
إن تشكيل مجمع للحوار الاقليمي في منطقتنا ومن ثم بين جميع الدول الاسلامية بالشرق الأوسط، لغرض تسهيل التعامل، حاجة ماسة كان ينبغي المبادرة إليه قبل هذا بكثير، ولابد ان يكون الحوار الإقليمي وفق اهداف مشتركة ومبادئ عامة تعترف بها دول المنطقة، وأهمها: احترام سيادة ووحدة تراب جميع الدول واستقلالها السياسي وعدم انتهاك حدودها، الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تسوية الخلافات سلميا، منع التهديد أو استخدام القوة، والسعي لإحلال السلام والاستقرار وتحقيق التقدم والسعادة في المنطقة.
 
علينا جميعاً أن نقبل حقيقة انقضاء عهد الألاعيب التي لا طائل تحتها، واننا جميعا اما رابحون معا أو خاسرون، فالأمن المستدام لا يتحقق بضرب أمن الآخرين، وان أي شعب لا يمكنه تحقيق مصالحه دون الأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين، وهذا هو مصيرنا شئنا أم أبينا: (..وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا وَتَذهَبَ ريحُكُم وَاصبِروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ) (الانفال، الآية 46).
 
وبالطبع ان هذا التعاون الذي لابد منه، ليس من نوع التعامل المر مع الاعداء، بل هو مسار ذو مذاق حلو للاصلاح والمودة بين أخوة وأعضاء اسرة واحدة ابتعدوا عن بعضهم البعض منذ فترة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..) (الحجرات، الآية 10).
 
أهمية ممارسة هذه الآليات في منطقتنا، ثم في الشرق الاوسط عامة تفوق اهميتها في اية منطقة في العالم. ولا يمكن انكار الحاجة إلى إجراء تقييم ذكي للتعقيدات القائمة في المنطقة بهدف انتهاج سياسات مستديمة لمعالجتها، ومحاربة الإرهاب واحد من هذه الموضوعات. فلا أحد بمستطاعه أن يحارب الجماعات المتطرفة، كالتي تسمى الدولة الإسلامية — التي لا هي بدولة ولا هي بإسلامية — في العراق، في حين تنتشر في اليمن وسوريا.
 
واذا كان مقررا ان نختار موضوعا من بين الفجائع في المنطقة للبدء في مباحثات جدية، فإن اليمن سيكون نموذجاً جيداً، وقد اقترحت إيران حلا معقولا وعمليا لتسوية هذه الأزمة المؤلمة وغير الضرورية. فالخطة الرباعية التي قدمتها تدعو إلى وقف إطلاق النار فوراً، وارسال مساعدات إنسانية إلى المدنيين اليمنيين، وتسهيل الحوار بين المجموعات اليمنية داخل البلاد، وفي نهاية الأمر توجيههم إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة.
 
وقبل عامين ايضاً، تم اقتراح خطة مماثلة بعد مشاورات مع سوریا وبعض الدول المجاورة وسائر الفاعلين من أجل إعادة السلام والأمن إلى سوريا، بالإمكان إدراجه على جدول الأعمال، إلى جانب الجهود المبذولة لتسوية الازمة اليمنية، وذلك بالتعاون مع الدول الإسلامية الاخرى وتحت اشراف آليات منظمة الامم المتحدة.
 
وتزامنا مع ذلك، يمكن استخدام هذه المباحثات الإستراتيجية، للقيام بخطوات محددة لتحقيق تفاهم أفضل لدراسة ولتسوية قضايا كالإرهاب والتطرف، ومنع نشوب حروب مذهبية وطائفية، ولتنويع اشكال التعاون العلمي والصناعي والتنموي وللارتقاء بمستوى العلاقات بين الدول الإسلامية بالمنطقة.
 
وقد يكون التعاون النووي للاغراض السلمية، نموذجا بارزا لمثل هذا النمط من التعاون، فمن حق إيران وجميع الدول الإسلامية بالشرق الأوسط الحصول على فوائد التقنية النووية السلمية طبقا للمقررات الدولية، ولابد ان تتعاون جميع دول المنطقة من أجل بلوغ هذه الأهداف، ومن الحالات التي يمكن متابعتها في هذا النمط من التعاون يشار إلى:
 
الافادة من إمكانيات التخصيب، على شكل مركز اقليمي لتوليد الوقود النووي عبر تعاون الدول الإسلامية بالمنطقة في الجانب التقني، وفي الجانب السياسي تكثيف الجهود الدولية لإقامة منطقة منزوعة السلاح الدمار الشامل في الشرق الأوسط.
في الخاتمة: اننا، بلدان هذه المنطقة والشرق الأوسط، الذين تشدنا قواسم مشتركة كثيرة ومتنوعة في الدين والثقافة والسياسة والجغرافيا نملك جميع المستلزمات لإقامة تعاون بناء ومفيد لجميع شعوبنا وشعوب العالم. فالتحديات الكثيرة القائمة في منطقتنا، مهمة وخطيرة إلى درجة لا ينبغي لنا ان ننشغل بمجادلات مذهبية وخلافات شخصية وان نقدم بشجاعة وبصيرة على مثل هذا التعاون الحيوي لمعالجة جذور الازمات في منطقتنا، وان لا نعقد الآمال على ان يحل مشاكلنا من كان لهم الدور الأساسي في خلقها.
 
إنها الفرصة الوحيدة للتعامل، وشعوبنا تنتظر منا عن حق بأن لا نضيع هذه الفرصة،: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..) (التوبة، الآية 105).
 
 
 
* وزير الخارجية الايراني
 
* الشرق القطرية


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد