تحقيقُ كلمة ( نعجة ) في الآية الكريمة ، وأشعار العرب

mainThumb

28-08-2015 07:37 PM

لقد كَنَّى العربُ عن المرأة بأشياء منها : ( النَّعْجَةُ ، والنَّخلةُ ... ) وذلك لارتباطٍ بينهما ، ومعنى دقيقٍ يجمعهما ، فالعربُ هم أهل الذوق والجمال .

وقد جاء ت كنيةُ المرأة بالنعجة في القرآن الكريم ، قال تعالى :

( إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) .

وقد تناول المفسرون كلمة ( نعجة ) على النحو التالي :

1 – منهم من قال : أنها أنثى الضأن .

2 – ومنهم من قال : أنها الشاة .

3 – ومنهم من قال : أنها البقرة الوحشية .

وكلُّهم متفقون على أنها كنيةٌ عن المرأة إلا شرذمَةٌ من الجهال الذين فسدتْ أذواقُهم ، وغَلُظُ حِسُّهم فقد شَنَّعوا على أنْ تُكَنَّى المرأةُ بالنعجة ؛ لأن الجهلَ مع قلَّةَ الذَّوْقِ أملى عليهم أن ذلك هضمٌ لحق المرأةِ وإساءةٌ لها في هذا التشبيه !

ولعلَّ هذا الرفضَ تَوَلَّدَ عند هذه الشرذمة ؛ لأنهم حصروا النعجة في معنى ( أنثى الضأن ) فقط ، لأنَّهم لم يجدوا رابطاً بينهما ، وفي الغالب يجري التشبيه بين المرأة وهذه الأشياء على معنى جمالي إما حُسْنُ قَوام أو ملاحةُ عينين ، أو دِقَّةُ جيد وعنق ، أو حُسْنُ إلْتِفاتَةٍ ...

وقد وجد العلامة النحاس – رحمه الله - الرابط بينهما حيث قال :

( والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ، لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب . وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ; لأن الكل مركوب ... ) .

فقد ردَّ النحاسُ الرابط في هذا التشبيه إلى ( السكون ، والمعجزة ، و الضعف ) ، فإن الأنثى من الضأن فيها هذه الأشياء التي تشترك معها المرأةُ أيضا .وإن لم يُصرِّح النحاسُ بأنه الأنثى من الضأن
وإن كنَّا لا نذهبُ إلى ما ذهب إليه النحاسُ في هذا الرَّبْطِ المخالف لمنهج العرب في تناول المرأة ، الذي كان ذريعةً لأولئك الجفاة الذي شَنَّعوا أن تُوْصَفَ المرأة بالنعجة .

فإن المُتَتَبِّعَ لمنهج العرب ولسانهم يعلمُ علمَ اليقين أن المرأةَ محطُّ الجمالِ والرِّقَّةِ والنعومة ، فقد وصفوا قَوامَها ، ومدامِعَها ، و مِشْيَتَها ، و وشعرَها وأسنانَها ، ...  حتى إلتِفاتَتها ، واختاروا لها أجملَ ما وقعتْ عليها عيونهم مما حولهم من الشجر أو حيوان الصحراء ، فقد اختاروا لها من الشجر النخلة لما تتمتَّعُ به النخلةُ من جمالٍ واستقامة قوام ... قال قائلُهم :

ألا يا  نخلة  من ذاتِ عِـرْقٍ
......  عليك ورحمةُ الله السـلامُ

سألتُ الناسَ عنكِ فخَبَّروني
.....  هَنَاً مِنْ ذاكَ يكرهُهُ الكرامُ

وليس بما أحَلَّ اللـهُ بـأسٌ
.....  إذا هو لم يخالِطْهُ الحـرامُ .

قال ابنُ أبي الأصبع في ( تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر ) ( 16 )  :

(  ومن مليح الكناية: النخلة، فإن هذا الشاعر كنى عن المرأة بالنخلة، وبالهناة عن الرفث؛ فأما الهناة فمن عادة العرب الكناية بها عن مثل ذلك، وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن ظريف الكناية وغريبها ) .

وهذا حميد بن ثور الهلالي يُكَنِّي عن المرأة بالسرحة :

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحةٍ
..... من السرح مسدودٌ علي طريق

أبى اللهُ إلا أنَّ سرحةَ مالكٍ
.....  على كل أفنان العضاه تروق .

قال ابن منظور في اللسان : ( فإنما كنى بها عن امرأة . قال الأزهري : العرب تكني عن المرأة بالسرحة النابتة على الماء ) وقال أيضا : (كنى بالسرحة النابتة على الماء عن المرأة لأنها حينئذ أحسن ما تكون ) .

والسرحةُ هي الشجرةُ الضخمة التي لها ظِلٌّ عظيمٌ ، وأجملُ ما تكونُ خُضْرَةً ونضارةً إنْ كانتْ على مورد ماءٍ .

فهذا هو الذوقُ العربي الذي تتقازمُ قُبالَتَه أذواقُ الأمم الأخرى ومن لفَّ لفيفَهم من شراذم هذه الأمة .

وعودا على لفظة ( النعجة ) ، فإن الذوقَ العربي يدفعُنا إلى ترجيحِ أنها ( البقرة الوحشية )  ذات القوام الرائع والمدامع الكحلاء الواسعة ، فهذا ألقُ بالمرأة من أنثى الضأن وإنْ ذهب الى هذا المذهب بعض الأجلَّاء .

وكل من قال : أنها الشاةُ ، لم يُعَيِّنْ ؛ لأن الشاة في اللسان تُطْلَقُ على الواحدة من الغنم والمعز والضأن والبقرة الوحشية و الظباء و النعام والحمر الوحشية .

وقبل ذِكْرِ أشعارِ العرب التي فيها تكْنِيَةُ المرأة بالنعجة ، نريد أن نبيِّنَ معنى ( النَّعَج ) الذي منه اسمُ النعجة ، ( النَّعَجُ ) هو شدَّةُ البياض ، وهذا من ممادِحِ النساء وجمالِهنَّ ، وهذا وافرٌ في البقرة الوحشية والظبية والمها العربية أكثرُ منه في الضأن  ، فاللونُ مقصودٌ بهذا التشبيه بين المرأة والنَّعْجة إظافةً إلى صفات أخرى بينهما من سَعَة العينين ، وشدَّة الاكتحال ، وطول الأهداب ...

قال تعالى مادحا نساء الجنة بصفة البياض : ( كَأَنَّهُنَّ بَيْض مَكْنُون ) ، وقال أَبُو دَهْبَلَ :

طالَ ليلي وَبِتُّ كالمحزونِ
.....  ومللتُ الثواءَ في جيرون
 
وَهِيَ زَهْرَاء مِثْل لُؤْلُؤَة الْغَوَّا
.....  صِ مُيِّزَتْ مِنْ جَوْهَر مَكْنُون .

فشَبَّه لونَ محبوبتِهِ بالزهرِ الذي مثلُ اللؤلؤِ ، وهو أجملُ ألوان النساء بياضُ مُشْرَبٌ بالصُّفْرَة ، قال غيلان ذو الرُّمَّة واصفا لون محبوبتِه  ميٍّ  :

كَحْلآءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَآءُ فِي نَعَجٍ
.....  كأنَّها فضَّةٌ قدْ مسَّها ذهبُ .

فاللونُ الأبيضُ في البقر الوحشي أحسنُ وأنصعُ منه في الضأن التي يُرَبِّيها الناسُ في الحضائر .

قال مالكٌ ابنُ أبي كعب :

هل للفؤادِ لَدى شَنباءَ تنويلُ
..... أم لا نوالٌ فإعراضٌ وتحميلُ

إنَّ النساءَ كأشجارٍ نبتنَ معاً
..... منهنَّ مُرٌّ ، وبعضُ المُرِّ مأكولُ
 
إنَّ النساءَ ولو صُوِّرْنَ من ذَهَبٍ
..... فيهنَّ من هَفَواتِ الجهلِ تخبيلُ

إنَّكَ إنْ تنهَ إحداهُنَّ عن خُلُقٍ
..... فإنَّهُ واجبٌ لا بُدَّ مفعولُ
 
ونَعْجَةٍ من نِعاجِ الرَّمْلِ خاذِلَةٍ
..... كأنَّ مَأْقيها بالحُسْنِ مكحولُ

ودَّعْتُها في مقامي ثم قلتُ لها :
..... حيَّاكِ ربُّكِ إني عنكِ مشغولُ  .

قال أبو عبيد : (ولا يقال لغير البقر من الوحش نِعاج ، وفي التنزيل في قصة داود – عليه الصلاة والسلام – وقول أحد الملكين اللذين احتكما إليه إنَّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة ولي نَعجة واحدة  ... ) .
 
قال العجاجُ يصفُ بقر الوحش :

( في نَعِجَاتٍ من بياضٍ نَعَجَا ) .

وكانت العربُ تقول : ( نساءٌ كَنِعاج الرَّمل : جميلات واسعات الأعين ) .

جاء في  ( خزانة الأدب ) للبغدادي عند وصف الناقة :

فانصرفْ عنهم بعنسٍ كالوَأَى ال
..... جَأْبِ ذي العانةِ أو شاةِ الرِّمالِ :

( والشاة الواحدة من الغنم للذكر والأنثى أو تكون من الضأن و المعز والبقر و النعام وحمر الوحش ، والمرأة ، والجمعُ شاءٌ ) .

وقد قيَّد الشاعر ُ ذكر الشاة في البيت بالرمال فهي إذن البقر الوحشي ؛ لأنها تسكن الرمل ، وقد قصد الذكر منها وهو الثور لأنه أغلظُ وأصبر !
 
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما قاله الشوكاني – رحمه الله – عند تفسير الأية  : ( قال الواحدي : النعجة البقرة الوحشية ، والعرب تكني عن المرأة بها ) .

وقد قال الآخرُ في المرأةِ :

يا شاة ما قنص لمن حلَّتْ له
...... فرميت – غفلةً – عينه عن شاتِهِ .

فهنا ذِكْرُ ( القنص ) مع ذكر الشاة التي كنَّى بها عن المرأة وهذا لا يليق الا بالبقرة الوحشية فهي التي تُقْنَصُ وَتُصادُ ، فالضأنُ لا تُقْنَصُ ولا تُرْمى .

فمن خلال هذه الأُطْروحة يترَجَّحُ أنَّ النعجة في الآية والشعر العربي هي البقرة الوحشية ، وليست أنثى الضأن ، والله أعلم



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد