القمح .. من سّلعة إلى خيْبَةٍ وضيعة!!!

mainThumb

31-08-2015 02:09 PM

ما زلتُ أذكر جيّداً أيام وسنوات الخمسينيات والستينيات ومنتصف السبعينيات من القرن الماضي( أي قبل خمسين عاماً في المتوسّط) أنّ  القمح عند الأردنيين بكافة أطيافهم كان الأداة الأولى والأساسيّة  في حركة البيع والشراء، والمسيطر- بلا منافس- على الأسواق الأردنية بمختلف أنواعها ومراتبها، فكنا ونحن صغار( في المرحلة الابتدائية أو حتى الإعدادية) نشتري أدوات القرطاسية أو الألبسة بالمقايضة بمادة القمح، كما كنا نشتري به التين، أو الرمان، أوالعنب من الباعة المتجولين في الحارات.
 
   ومنذ منتصف السبعينيات شهد الاقتصاد الأردني تحوّلاً واضحاً من الاقتصاد المكاني (الموقعي) Spatial Economic إلى الاقتصاد الحضريUrban Economic  فبدأت العملة المعدنية والورقية بالانتشار كأداة للشراء على حساب ظاهرة القمح التي بدأت بالتراجع المتسارع، ومع نهاية الثمانينيات انتهت واختفت ظاهرة مقايضة القمح بالسلع التجارية، واختفت معها ظاهرة وجود القمح في البيوت، ومع ذلك بقي جمهور من الناس ممن يعشقون القمح على تواصل مستمر مع هذا المحصول المبارك ولم ينقطع يوماً من بيوتهم، وأنا واحد منهم، وكنتُ اشتريه من الأقارب الفلاحين والمزارعين مباشرة، وأحياناً كنتُ اشتريه من محلات ٍ أكنّ لأصحابها كل الاحترام والتقدير في كفرنجة، أو عنجرة، أو من محلات الأخوة التجار الشوام في عجلون.  
 
قبل أربع سنوات أصبحتُ من سكان مدينة اربد، وتعرّفتُ على  أبو عماد من بلدة الذنيبة تاجر يبيع كل أنواع الحبوب الأردنية وأصناف الأغذية التراثية، محلّه المتواضع في شارع ايدون جنوب دوار الشهيد وصفي التل، وفوجئتُ قبل أسبوع أنّ محل أبو عماد هذا اشتراه قريب له وحوّله إلى محل لبيع الألبسة الأوروبية- خسارة والله!!!- وبدأتُ أبحث عن القمح في المحلات المجاورة له واتسعت دائرة السؤال في مدينة اربد، لكن عبثاً تحاول-كما يُقال-.
 
  قُلتُ في نفسي لا بدّ من وجوده في بلدة ....أو.....من بلدات إربد العريقتيْن في زراعة القمح حتى أيامنا هذه في سهول حوران، وكم فاجأني بل وأذهلني خلو هاتيْن البلدتيْن من وجود القمح، ومن الطريف أنّ محلاً تجاريّاً له يافطة ضخمة باسم محلات بيادر.....(اسم البلدة) فيه كل أنواع الحبوب المحلية والعربية والعالمية باستثناء حبوب القمح، وما لفت انتباهي وأنا أتجول في الشارع الرئيسي في البلدة نفسها  هو كثرة محلات الأراجيل والمعسل، والكافي شوب، ومطاعم الحمص والفلافل والشاورما والوجبات السريعة، والفوط والمنظفات، والسيارات الفارهة، والبيوت ذات الطراز الأوروبي (( باعوا الأراضي يا بوي لماذا تستغرب!!!)).
 
نحن لسنا ضد ظاهرة التمدّن ( التقلّط بالفلاحي)، لكنّا بكل تأكيد ضد أن يكون ذلك على حساب تراثنا، وعرق أجدادنا، ومنظومة قيمنا، وهنا نعوذ بالله وندعوه تعالى أن لا تنطبق علينا مقولة لا خير في أمةٍ تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع.
 من هنا ومن هذا المنبر أوجّه دعوة مقرونة بالرجاء إلى من يهمهم أمر التراث والحفاظ عليه، والتجار والأثرياء، أن يقيموا كل  عام مهرجاناً للقمح الأردني بكافة أنواعه مثل: الزغيبية البيضاء والسوداء، والنعيمية البيضاء والسوداء، والقصري، او القمح الأجنبي الذي تم توطينه بنجاح في الأردن مثل: المكسيكي،  والاسترالي، على أن يكون هذا المهرجان في المناطق التي كانت مشهور( أو ما تزال) بإنتاج القمح الأردني في:
- الأغوار ( في كريمة أو وادي اليابس او المشارع).
 
- سهول حوران في إربد ( في الصريح أو الحصن أو الرمثا، أو حوارة). 
 
- سهول مادبا( في أم العمد أو القسطل).
 
- سهول الكرك ( في الربة أو المزار أو مؤتة).
 
ونتمنى أن يُعرض على هامش المهرجان :
 
- أدوات الحراثة والبذار( مثل المحراث الخشبي، والمجرفة، والفاس...الخ).
 
- أدوات الحصاد ونقل المحصول( المنجل، والقادم، والحورة....الخ).
 
- أدوات الدرسْ والتذرية وجمع القمح ( لوح الدراس الخشبي، والمذراة ، والشاعوب، والكربال، والغربال، والميجنه..الخ).
 
بعد هذا الواقع المؤلم الذي رأيته عُدتُ إلى البيت وأنا أدندن أغنية تراثية حزينة، كانت النّسوة يرددنها على الفقيد أو الميت الذي عاش حياته مناضلاً في الحراثة والحصاد وجني المحصول، أذكر منها:
 
مات والمنساس(1) بيده *** والبقر يجعر عليه(2).
 
ياما كربل(3) يا ما غربل(3)*** ياما هال(4) التبن عليه.
 
يرحم أمواتنا وأمواتكم الذين ورثنا عنهم هذه الأراضي التي جُبلت بعرق أجسادهم وأنفاسهم الطيبة.
 
(1) المنساس: عصا خشبية طولها 2م تقريباً أحد أطرافا مُدبب ليضرب بها الحيوانات التي تجر المحراث وتُسمّى الناقوزة.
(2) البقر يجعر عليه: يرتفع صوت البقر حُزناً على الميت وشوقاً إليه.
(3) كربل: من الكربال وهو من أدوات فصل القمح عن القش، دائري الشكل كالمنخل، ولك عيونه واسعة.
(4) غربل: من غربال وهو من أدوات فصل القمح  عن الشوائب  يشبه الكربال ولكن عيونه ضيقة. 
(5) هال التبن: غمره التبن أو انهال عليه.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد