قرار مجلس الأمن لمحاكمة السودان: عدل الأقوياء فى ذبح الضحية .. !!

mainThumb

13-10-2015 12:21 PM

بقلم : د. الصادق بخيت  الفقيه* 

 
يشهد العالم تقلبات قيمية وسياسية تحول تعقيداتها دون مواكبة التطورات المتعاقبة التي تحدث فيه، وتؤخر بالتالي الإجابة عن كثير من التساؤلات الملحة حول طبيعة وكنه هذه التقلبات والتطورات. فالآن يتم، مثلا، إخراج سلطة القرار السياسي السيادي تدريجيا من ظلال سيطرة الدولة، الكثيرون يتخوفون من عواقبه، والبعض يرى فيه فرصة جديدة للتعبير عن الذات خارج أطر القيود المحلية، ويعتقدون أن لديهم مساحة أكبر من الحرية للتعبير عن أنفسهم كممثلين أصليين، لذواتهم على الأقل، وأن يتحدثوا عن مشكلات لم يكن بإمكانهم الحديث عنها بحرية من قبل. لكن لا تزال هناك بعض الحدود التي يجب أن يعمل في إطارها، ويعربون عن اعتقادهم بأن الأمور ستستغرق بضع سنوات لتتحسن، ولصالحهم بالطبع.
 
وتسلط الأزمة التي أدت إلى إصدار مجلس الأمن ثلاثة قرارات في أقل من شهر، وإلى وصم حكومة السودان بكل الصفات المستقبحة في العرف الدولي، تسلط ضوءا قاسيا، ليس فقط على ما يجرى في السودان ودارفور موضوع العقوبات، ولكن على نقاط الضعف الكامنة في أسس الثقافة السياسية الدولية الجديدة برمتها. وهي ثقافة سماتها الأساسية الدائمة هي القوة والمناصرة التي يحمي بها الكبار بعضهم البعض، وهي ثقافة يستمر فيها الأقوياء في فرض سيطرتهم على الضعفاء، ولو بدعاوى التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان.
 
وهي ثقافة يبدو أنها معقودة الآن للغرب الثقافي والجغرافي، وعالقة بين أوربا من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، ولم تك بعيدة عنهما في الماضي القريب. حيث لم تتدبر بقية دول العالم أبدا أمر ترتيب أوضاعها منذ الكشوف الجغرافية، والتنوير الذي سيطر بفكرته الاستعمار، ولم تفق بعد من هول المفاجأة التي أوقعها انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية توازنات الحرب الباردة.
 
وهي ثقافة أصبحت فيها وظيفة المؤسسة الدولية الجديدة تبرير الأخطاء الكبرى، وتقنين قسمة الكبار لمصائر ضعفاء العالم، على نحو يتوزع فيه الحكام قيمة الانتصار على المحكومين وترث الضحية عار القرار. ومثلما بررت الأمم المتحدة للكبار خطيئة غزو العراق، فقد حقق لهم مجلس الأمن بإذلال السودان الانتصار المتعادل لصراع عامين حول هوية المحكمة الجنائية الدولية.
 
ورغم احتدام التوتر بين الأهداف والنتائج في هذه المحصلة، وتضارب قياسات العدالة وازدواجية المعايير، إلا أن أوربا خرجت، بمحاكمة السودان، مزهوة بإحقاق أيديولوجيتها، ومواصلة قدرتها على رقابة ومحاسبة مواطني وقادة مستعمراتها السابقة، وانتزاع حق محاكمة العالم على أرضها، وذهبت أمريكا طربة وقانعة بضمانات حماية مواطنيها من طائلة قانون هذه المحكمة مهما ارتكبوا من جرائم أو اقترفوا من فظاعات. وحجة واشنطن، التي يجب أن يتنبه لها الضعفاء قبل الأقوياء ويتمسكوا بها ويفيدوا منها، هي أنها لا تريد أن تعرض مواطنيها لمحاكمات بدوافع سياسية. وقد أقر العالم أمريكا على هذا الفهم، وأصطلح معها على هذا التفسير، وأعفى مواطنيها من أن يؤخذوا بالشبهات وقوانين يمكن أن تكون الحيثيات فيها افتراضية، والبيانات كيدية، والمحاكمات سياسية. ومن الواضح هنا أن النتيجة الأساس لقرار مجلس الأمن، في شأن السودان، تقوم على مبدأ أفضليات الجاهلية الأولى: "إن سرق القوي تركوه، وإن سرق الضعيف أقاموا عليه الحد". إذ بمجرد النطق بهذا القرار تبددت حيادية وموضوعية وشمول العدل فيه، وظهرت كل العقبات التي تولدت عنه، فالسيطرة على النتائج المترتبة عليه عسيرة وباهظة التكاليف، وذلك رغم تصاعد تكاليف الحالة الراهنة للصراع في دارفور.
 
وأن أكبر خطأ أرسله القرار الى العالم، ومن خلاله الى الفرقاء المتحاربين في دارفور، وبكل ما ارتكز عليه من متناقضات نافية لأصل العدالة، هو افتراض أن مجرد صدوره يمثل انتصارا لفريق ضد الآخر، وما على الفريق المنتصر بمنطوق القرار ودلالته السياسية إلا أن يتحلل من كل التزام موضوعي بضرورات السعي والجد في التفاوض، وتجشم مصاعب الوصول الى سلام عبر الحل السياسي مع الطرف الآخر. ويندفع الطرف الذي تؤشر عليه الإدانة بالغضب وجوائح الانفعال، فيعطل، تأكيدا لإرادته، ما كان مزمعا على فعله وعازما على إحسانه. وليس من المستغرب إذن أن تبدو كل هذه القائمة من المصاعب الآن. تكاسل عن مسعى التفاوض، وتراخ فى الاستجابة لداعي السلام، وتخاذل عن بلوغ مقاصده. التي يمكن للمرء أن يقرب الفهم لتداعياتها برسم صورة المشهد السياسي العام، الذي تبارى الممثلون فيه الى التلاوم المحموم، وتجاوزوا بالخصومة ظلال الإدانة الجماعية للسياسة السودانية والتشويه العام لصورة السودان. ورغم التركيز هنا على النتائج الآنية لإحداثيات القرار، ومن يفترض الناس تكهنا أنه يشملهم، إلا الآثار الكلية تطال الكل، ولأن تاريخية أزمة دارفور واستمرارها هو في الأصل والمحتوى إدانة للجميع.
 
ومع ذلك، فإنه لمن المثير للدهشة أن نجد أن الدول الضعيفة وقفت متفرجة، وصارت تركن الى مصيرها بغير مقاومة محسوبة، وتسلمها أخطاؤها وخطاياها إلى المساءلة والتجريم في الحرم الأوربي، من دون أن تعي أن السودان لن يكون إلا مقدمة في سلسلة طويلة من المطلوبين أمام المحكمة الأوربية/الدولية الجنائية. ولن تسعف التعبئة الداخلية والخارجية عندها، ولن يفيد الجأر بالسيادة ساعتئذ.
 
لأن أشد جوانب هذا الأمر خطورة هو التشكيك الذي يلحق بأنظمة الدولة القانونية، قبل أن تتداعى أسانيد مبادئ السيادة، إذ يصبح المؤهل المرصود لكل دولة هو النطق، أو "التصريح"، الذي يمكن أن يتطوع به أي عضو نافذ في الأمم المتحدة، أو لجنة من لجانها، خاصة مجلس الأمن، يؤشر فيه على ضعف النظام القضائي للدولة المعنية، ومن ثم يسقط قضاء الدولة وقانونها، ويحاكم النظام والبلاد والعباد تحت طائلة قانون أممي في أرض أوربية.
 
وليس ثمة مكان ينطبق عليه ما سبق بهذه الدرجة من الوضوح والإلحاح كما هو في السودان، الذي يعد دولة ضعيفة من حيث التأثير الاستراتيجي في الوقت الراهن، وإلا فلماذا قدر لكل هذه السلسلة، التي لا تتوقف، من القرارات أن تحدث كل هذا الاضطراب في مواقف القوى السياسية السودانية. فغابت الجماعية، وتخلفت الحكمة، وتبدى الانفعال، وتحركت الضغائن، وانتفضت "الشماتة"، وظهرت الانتهازية، واستطالت الوصولية.
 
ولكن إذا كان السودان يعاني من مصاعب جمة الآن، ومنها هذه المعضلة الجديدة، فيظل من الخطأ افتراض أن قرار محاكمة المجرمين، الذين اقترفت أيديهم جريرة الأزمة في دارفور ويجب أن ينالوا ما يستحقون من عقاب، سينهى وحده هذه الأزمة، أو يعيد الأمور إلى نصابها بين عشية وضحاها، أو يحقق لكل حالم أصل حلمه على حساب الحكومة ومن يقاتلونها، لأن القرار يحاكمهما معا، ويشمل بآثاره الجميع. وقد تبدو هذه القائمة من المصاعب كبيرة ومعقدة، وهي حقا كذلك، ولكن الفرصة تبدو مواتية هي الأخرى لتطوير المبادرات الوطنية والإقليمية للإسراع بخطوات الحل، وتوصيف استراتيجية أشد تماسكا لإحكام الاتفاقات المستقبلية ومراعاة تفاصيل الالتزام بها. وإذا كان حديثنا هنا عبارة عن رؤى وتمنيات ممكنة التحقق بخلوص النوايا، فإنه من ثم يقوم على فرضية أن اشتداد الأزمة يولد حلا وإن تعثر المخاض.
 
فالعالم يحتاج إلى السودان، رغم كل ضعفه وأزماته، أكثر من أي وقت مضى، لكي يلعب دورا في سلسلة من الأدوار الجيوسياسية ـ في المنطقة العربية والافريقية، وفي دورة الإصلاح فى الشرق الأوسط، وفي محاربة الإرهاب، وفى تدجين "الأصولية الإسلامية"، وفى توطين فكرة السلام بعد تطاول سنوات الحروب. وحتى يتأهل لهذه الأدوار جميعا عليه إكمال ما بدأه لإطفاء الحريق في جنوبه، وإنهاء المأساة التي تتكشف عبر صور "بشعة" في دارفور. ولقد سبق القول منذ أزمان بعيدة بأن السودان مأزوم بمصادر القوة فيه; الموقع المتميز، المساحة الشاسعة، المياه الوفيرة، الأراضي الخصبة، الثروات الظاهرة والباطنة، الثروة البشرية والتنوع الهائل، الذي تفصح عنه العناصر والأعراق والألوان، والألسن، والأديان، والثقافات، والحيوية الفكرية، وتشكيلات الرأي، والمذاهب السياسية العديدة والمتنوعة، والمتسامحة بما يشبه السمة الغالبة لأهل السودان.
 
 
- الشرق الاوسط 7 ابريل 2005
 
* كاتب سوداني


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد