الإسلام المستفز من صنعه - عبدالله العتيبي

mainThumb

29-11-2015 11:05 AM

 دين الإسلام يتبعه أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين، والإسلاميون الحركيون لا يبلغون واحدًا أو اثنين في المائة من المسلمين، والإرهابيون المجرمون أقل من هذا، وإن كان شيء من الحقيقة يكمن في أن أتباع حركات وجماعات وتنظيمات الإسلام السياسي هم المستودع الضخم لجنود الإرهاب، لكن المراد هنا هو الحديث عن نوعٍ جديدٍ من قراءة الإسلام والتأثير في المسلمين، وهو ما يمكن تسميته بـ«الإسلام المستفَزّ»، وهو نوعٌ جديدٌ تمّت صناعته على أعين حركات الإسلام السياسي وخطابها الشمولي المتطرف، وهي صناعةٌ تقوم على مجموعةٍ من العناصر تقف على رأسها صناعاتٌ ثلاثٌ هي: «صناعة السخط»، و«صناعة الإحباط»، و«صناعة العنف».

 

إذن، فالإسلام المستفزّ ليس هو الإسلام، بل هو قراءةٌ له، والإسلام كما هو معلومٌ تشعّب إلى فرقٍ وطوائف في الاعتقاد أو الإيمان، ومذاهب في الفقه، ومدارس في السلوك والأخلاق، وكلٌ منها يقدم قراءة تختلف عن غيره في المجال نفسه أو بمجموع المجالات، وظلّ مفتوحًا طوال تاريخ المسلمين لقراءاتٍ متعددةٍ ومتباينةٍ، والحديث هنا عن الإسلام المستفّزّ أو المسلم القابل للاستفزاز بشكلٍ دائمٍ لا شك أنه حديث مختلفٌ عن الإسلام كدينٍ سماويٍ.
 
«صناعة السخط» هي صناعة تولّت كبرها جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها نهاية العشرينات من القرن الماضي، ثم نظّر لها بحماسةٍ سيّد قطب في مقالة له بعنوان «مدارس للسخط» في مجلة «الرسالة»، قال فيها: «أما أنا فسأظل ساخطًا»، و«إنه لو وكل إليّ الأمر لأنشأت ضعف هذه المدارس التي تنشئها الدولة لأعلم فيها الشعب شيئًا واحدًا هو السخط. لو وكل إليّ الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة.. ومدرسة للسخط على أولئك الكتّاب والصحافيين الذين يقال عنهم إنهم قادة الرأي في البلاد.. ومدرسة للسخط على أولئك الوزراء».
 
فهي صناعة سخطٍ ذات أهدافٍ سياسيةٍ، وهي تعلم السخط على مستويات: سخطٌ على النظام الدولي والدول الكبرى فيه، وسخطٌ على الدولة، وسخطٌ على الحكومة، وسخطٌ على المسؤولين، وسخطٌ على التيارات المخالفة، وسخطٌ على الإعلام، وسخطٌ على أفراد الناس غير المنتمين للتيار. وهذا السخط العام والشامل يجعل العنصر التابع لهذه الحركات مستفزًا وساخطًا على كل ما حوله وعلى العالم بأسره.
 
ثم تأتي «صناعة الإحباط»، وهي صناعة تعتمد الهجوم على كل ما تصنعه الدولة وكل سياساتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية، والتشكيك بأي محاولاتٍ جادةٍ للتطوير ونشر النظرة التشاؤمية تجاه الحكومة وأدائها، وإفشاء النظرة السوداوية تجاه المستقبل، وأن أي جهدٍ يبذل في اتجاه التنمية سيفشل، وأي عملٍ للتطوير سيخرج مشوهًا، وهكذا دواليك في سلسلةٍ لا تنتهي من صناعة الإحباط الدائم والمستمر، ومن أمثلة ذلك تمجيد دول «الإخوان» حول العالم وتشويه كل دولةٍ لا يسيطرون عليها، كما يجري تجاه تركيا وقياداتها مثلا في الوقت الحالي، بعكس النظر للدول العربية ودول الخليج.
 
ومن قبل، وصف حسن البنا الدول العربية بأنها مصابةٌ «في ناحيتها النفسانية بيأس قاتلٍ وخمولٍ مميتٍ وجبنٍ فاضحٍ وذلةٍ حقيرةٍ، وخنوثةٍ فاشيةٍ»، فهل بعد هذا الإحباط إحباطٌ؟
 
لكن هل الدول لا تخطئ، والحكومات منزّهةٌ، والمسؤولون كاملون؟ بالتأكيد لا، ففي كل منها قصور ملازمٌ لطبيعتها، والنقد البناء لها يزيدها ولا ينقصها ويعدلها ولا يزيدها اعوجاجًا، لكن الفرق واسعٌ بين مشروعٍ متكاملٍ يستخدم الدين ليسيطر على المجتمع ويقمع التيارات المخالفة ويستولي على السلطة السياسية، وبين مواطنٍ مخلصٍ يرى الخطأ فينتقده ويقدّم البديل إن استطاع.
 
حين تطرح الدولة أي مشروعٍ تنموي أو تتبنى الحكومة رؤيةً إصلاحيةً كبرى أو تسعى مؤسسةٌ أو مسؤولٌ للنهضة تجد هجومًا مباشرًا من أتباع الإسلام السياسي عليها جميعًا، ويتم نشر التشويه المتعمد للمشروع، وتشويه القائمين عليه، لا لشيء إلا لمجرد أنه لم يخرج من أنفاق الجماعة، ولم يمر على عقول قياداتها المغلقة، وفي النهاية لا يخدم طموحاتها وأهدافها السياسية الكبرى.
 
أما «صناعة العنف» فهي الهدف والنتيجة، بحيث يصبح لدى الجماعة أو التيار مقاتلون شرسون، مدربون ومجربون للعمليات العسكرية والقتالية، وهو ما كان يسميه حسن البنا «التربية العسكرية»، وبنى على أساسه «فرق الجوّالة» و«طبع الجندية»، وصولاً لـ«التنظيم السرّي» الذي يقتل ويفجر ويغتال ويدمر، وللتدخل في شؤون الدول بغرض إسقاطها كما كان يقول محمود عبد الحليم مؤرخ الجماعة: «الإخوان المسلمون الذين بلغوا أشدّهم حتى إنّهم يقيمون الدول ويسقطونها»، وصولاً لقول حسن البنا: «مهمتنا سيادة الدنيا»، ولم يذكر أن ذلك يتمّ عبر توظيف «الآخرة».
 
يقرّ البنا بقوله: «إن الإخوان المسلمين قومٌ سياسيون ودعوتهم دعوة سياسية»، لكنه يستخدم الدين والعسكرية والإرهاب، وهو يقول: «فنحن حربٌ على كل زعيمٍ أو رئيس حزب أو هيئة»، وهو لا يعترف بالوطنية ولا الوطن ويفسر حدود الوطن «بحدود العقيدة لا بحدود الجغرافيا»، وينتظر «يوم الدم»، ويعمل على صناعة الثورات ضد الدول القائمة، مثل ثورة اليمن 1948، ويقوم بـ«تصدير الدعوة»، ولا يخفي إعجابه بـ«هتلر» وبالأحزاب النازية والفاشية، وغيرها الكثير من مواقفه وتصريحاته وأقواله.
 
يرزح العديد من المثقفين العرب وغير العرب تحت ضغط الواقع، ثم يضيعون في غيابة الوهم باعتقادهم أن الإرهاب ظاهرةٌ حديثةٌ ولم تحدث إلا منذ عقدين أو ثلاثةً، لكنهم يتغافلون عن هذا العمق المهم في قراءة الإرهاب، وجذره في جماعات الإسلام السياسي، لجهلٍ أو لمصالح.
 
إنهم يصنعون على أعينهم جيلاً أو شعبًا أو مجتمعًا بحسب قدرتهم يضمنون بقاءه مُستَفَزًّا على الدوام، مما يخلف لديه قابلية للعنف، ثم يساومون بهذا كله أمام صانع القرار، فأي عملٍ تنمويٍ يمثل استفزازًا، وأي استثمارٍ في السياحة يمثل استفزازًا، وأي إصلاحٍ للتعليم يمثل استفزازًا، وأي تطويرٍ إداري يمثل استفزازًا... وهكذا، ثم يضيفون بعد ذلك وبحسب ثقتهم في منتجهم المستفزّ، وبعد أن يلبسوا «مسوح الضأن»، بأن هذا سيؤدي إلى «ما لا تحمد عقباه».
 
أخيرًا، فإن صناعة السخط لدى الأتباع تؤدي بشكلٍ شبه طبيعي لصناعة العنف، وصناعة الإحباط تمثل مرحلة لجوء القادة والمخططين للرجوع للمسكنة، وتحميل الدولة الأخطاء وإبرازها وإدخالها في نظريات المؤامرة أو التغريب أو غيرهما من المفاهيم التي يتفنّنون في صياغتها ونشرها وتعزيزها لدى المتلقي بين فترةٍ زمنيةٍ ومعطياتٍ واقعيةٍ يختارونها حسب الحاجة، مما يؤدي في النهاية إلى «صناعة العنف والإرهاب».
 
صحيفة "الشرق الأوسط"


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد