العراق .. يا لثقل الذَّاكرة - رشيد الخيُّون

mainThumb

11-02-2016 09:43 AM

غادر ملايين العراقيين بلادهم، هرباً من القسوة والعنف أو طلباً للخبز، لكنهم لم يشعروا بالقلق عليها مثلما يشعرون اليوم. فشبح التقسيم يجوب ربوعها، والأسوار والخنادق ستحيط المدن، وعظمة الفساد والإرهاب تحول دون الأمل بالعراق وطناً وتاريخاً. لا أرى بهذا الوطن لقيطاً شكله الإنجليز على مزاجهم. فإذا صدقنا بهذا الادعاء، نشطب على دهر بلغ آلاف السنين، ونتاج حضارة عُدت من أول الحضارات البشرية، ولا نقول ذلك من باب التعصب للاسم والمكان الذي لم يضف إليه الإنجليز، ولا المحتلون الآخرون أضافوا أرضاً لأرضه إذا لم ينقصوا منها، إنما هذه الحقيقة التي تُظهرها خرائطه القديمة، وفي مختلف العصور، أعلاه «أثور» من الموصل وأسفله «عبدان» عند البصرة (المسعودي، التنبيه والإشراف)، حيث نهايات دجلة والفرات.
 
 
أقول ثقل الذاكرة، ذلك أن المهاجرين العراقيين يحاولون التخفيف من أشجانهم، على وطن يذوب كذوبان الملح في الماء، ورغم ما حصلوا عليه من جنسيات راقية، فإن العراق ظل هاجسهم، حتى تمنى الكثيرون، من علماء وأدباء وبسطاء الناس، الحصول على دواء النسيان، فالذاكرة ثقيلة إلى حد الاكتئاب والقلق القسري، ذلك ما انطبع في ذاكرتهم من وفرة النعمة والرقي الاجتماعي الذي لم يبق منه سوى الصدى البعيد.
 
 
 
تمتد الذاكرة إلى ستة آلاف عام، بعمر دجلة والفرات، عاشت أجيال على جرفيهما تزرع وتصنع، ومَن يقصدهما يغتني ويطول به المقام. هذا ما اطلع عليه العراقي المغترب من الآخرين. فزيارة إلى المتحف البريطاني أو الفرنسي أو الألماني كافية أن تجعل العِراقي يفكر ببعد تاريخي، ويعض على يده ندماً على ضياعه وضياع بلاده. قال لنا علماء الغرب، الذين اكتشفوا قيمة هذه الأرض قبل اكتشافنا لها: إن الكتابة بدأت على شواطئ الفرات، والعجلة والشّراع اخترعا هناك وصارا مِن أسباب المدنية، وأول نص أدبي وأفكار عن الكون والخلق ظهرت في ملحمة جلجامش، وأول عملية جراحية جرت على أرضه، وأكثر من هذا وجود الشرائع والقوانين قبل العالم كله، حيث مسلة حامورابي وما كُتب قبله من شرائع. وقال لنا الغربيون بأننا أحفاد أولئك العظماء، ولم يقولوا ذلك من صلة النسب إنما من صلة الارتباط بالأرض، فمن وفد وطال به المقام له الحق بالانتساب إليها، فأهل الأهوار والجبال والسهول ليسوا بالضرورة أبناء ملوك وشعوب سومر وآكد وآشور، غير أنهم وجدوا حضارة فعاشوا في ظلها.
 
 
 
ربما لم يشعر مَن بداخل العراق بثقل الذاكرة مثلما يشعر بها المغترب، الذي وجد العالم يفخر بحضارته، وبالمقابل تجري أمام عينيه تصفيتها، والبداية بقطع رأسه (الموصل)، وسلطة قوى تكره بغداد، ولا تريد الاعتراف ببلاد اسمها العراق، حتى صارت اسطنبول وطهران أقرب إليهم منها، جيل يربى على نسيان هذه البلاد، مع أن الضيم الذي أصابهم ليس مسؤولية مذهب أو ديانة أو قومية إنما الكل وقع تحت هيمنة غاشمة.
 
 
 
لا ندري، هل النفط والماء كانا على مذهب من المذاهب، أو قومية من القوميات، فالكل شرب من ماء واحد وتنعم، في حالة إظهار النعمة وتوزيعها بعدالة، من نفط واحد، كل بناء نشأ بأعالي العراق وأسافله من تلك النعمة، ولم يقل أحد هذا نفط محتكر لمذهب دون غيره، إلا اليوم صُنفت الأشياء طائفياً. هكذا يفكر المبتلي بثقل الذاكرة، تجول في باله زقورات سومر وبابل و«أربيلو»، فمَن عاش الخمسينيات والستينيات، ويعيش أحوال المدن اليوم يُقدر قيمة الماضي.
 
 
فماذا يُنشر على مواقع التواصل غير صور لبغداد، وبقية المدن، مِن العقود الخوالي، كمقارنة بين الأزمنة، ذلك لعظمة الفجوة بينها، كيف كان التمدن وكيف آل إليه الحال. لقد عاد الزَّمن إلى ما قبل الحضارة، وبممارسة مفضوحة صار الريف يتحكم بالمدينة، ولا يقدر على حكمها إذا لم يخضعها لأعرافه. بغداد ليست بغداد، يوم كان التبغدد قرين التمدن، ولعل التوحيدي (ت 414ه) أول من أطلق هذا المصطلح، قال: «أظرف من الخراساني إذا تبغدد» (الامتاع والمؤانسة)، ووثقه الجواهري (ت 1997): «مشى التبغددُ حتى في الدهاقين» (يا دجلة الخير)، ولا حتى عصرها قبل عقدين. سيُقال عنها، في ما بعد، ما قيل عن «اليمن السعيد»، وبقايا المدن المهجورة، التي لعظمة عمرانها قيل «شيَّدها الجان». فيا لثقل الذاكرة. هذا أحد أبنائها الشاعر عواد ناصر يتحدث مع مؤسسها كدارٍ للحكْم، وجهاً لوجه، أسفاً عليها بعد أن صارت قلعة لقوى غاشمة جاهلة: «قلت لا تبنها يا أبا جعفرٍ، سوف تطردنا واحداً واحداً، وستكسر أجنحة العندليب بماء شناشيلها، ليتك تعدل عما نويت»!
 
 
صحيفة "الاتحاد" الإماراتية


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد