المتقاعد فرحات بيه ‏

mainThumb

02-03-2016 12:00 PM

أحاول في هذا المقال تسليط الضوء على جانب اجتماعي في حياة المتقاعد بالمراحل ‏الأولى من التقاعد وخاصة المدني. فالقضية ليست راتباً معاشياً فقط؛ إنها أكبر من ذلك. ‏وفي البداية دعوني أعرفكم بفَرحَات بيه وهو كما تدل كلمة بيه عليه مصري الجنسية. ‏فالشخصية مصرية ولكن التقاعد شأن عام وربما كان في العالم العربي يشكل حالة فريدة.‏
 
فرحات بيه هو شخصية من شخصيات فلم (البيه البواب) بطولة الفنان القدير أحمد زكي ‏رحمه الله.  فرحات (الفنان الرائع فؤاد المهندس) موظف كبير في إحدى المؤسسات؛ كان ‏يعيش حياته كموظفٍ محترمٍ  (يشخط)  ويصيح بمن حوله كمسؤول كبير إلى أن جاء اليوم ‏الموعود وهو المعاش أو ما نعرفه بلهجتنا بالتقاعد. رُفض طلبه بتمديد خدمته رغم توصية ‏المسؤولين بتمديدها لأنه الموظف الذي ما تأخر يوماً عن موعده بحجة إفساح المجال ‏للشباب. ‏
 
أقام له زملاؤه بالعمل حفلة وداعٍ وصفوها بأنها كبيرة عكست حبهم للسيد فرحات بيه قال ‏فيها (شاعر المؤسسة الكبير) قصيدة في مدحه كما جاء بالفلم هذا نصها.  طبعا القصيدة ‏يمكن وصفها بأنها تنتمي للشعر (التخبيصي). ‏
يا فرحات يا منوفي ‏
يعجز عن وصفك الكلام
فقد كنت للطهارة عَلَماً
وللنزاهة إمام
قضيتَ عمرك بالوظيفة ولم تغتني ‏
وخرجتَ منها يا مولاي كما خلقتني. ‏
طبعا تعني عبارة يا مولاي كما خلقتني (أبيض) أو بدون مدخرات أو توفير لأن راتب ‏المؤسسات هو من باب الستيرة للموظف فقط وليس للتوفير فكيف براتب التقاعد لاحقاً؛ ‏فخرج من المؤسسة كما دخل: شأنه شان القارئ الكريم عندما يتقاعد إن كان موظفاً.‏
في ختام الاحتفال كانت هدية الاستاذ حندوسة (مدير المؤسسة) عبارة عن شهادات ‏استثمار بقيمة ثلاثين جنيهاً مصرياً بالتمام والكمال وأنتم تعرفون ما قيمة الثلاثين جنيهاً؛ لكن ‏ما باليد حيلة فزملاؤه بالعمل ليسوا بأفضل حال من حيث المرتب؛ فهم لا يملكون إلا ورقة ‏التوت التي تستر عيوبهم المادية فقط. ‏
 
عاد السيد فرحات للبيت فرحاً (أو هكذا ظهر لنا بالفلم) إلى البيت ليعلن الخبر بصوت تشوبه ‏المرارة خاصة عندما رمى جانباً القصيدة، وكذلك عندما سألوه عن الهدية فقال ساخراً هي ‏هدية الوطن يا بني. ‏
ثم كان السؤال مباشرة والأهم من القائم على أعمال البيت والأسرة من حيث المصروف ‏وهي المدام؛ وبعدين يا فرحات حتعمل أيه؟  فرد عليها بثقة يشوبها الخوف من الفشل: ‏
ما تخافيش، أنا خبرة.  بكرة القطاع الخاص حيخطفني. ‏
 
وتعبر هذه الجملة عن حال الموظف أثناء الخدمة؛ إذ يقع الموظف أثناء الخدمة تحت شعور ‏أنه (إشي كبير) أحياناً فيعتقد كما اعتقد السيد فرحات بيه. وربما يكون كبيراً فعلاً وهو على ‏كرسي المسؤولية؛ وربما تكون المسؤولية الكبيرة والأهمية  للكرسي وليس للموظف.‏
‏ مضت الأيام ولم يخطفه أحد من القطاع الخاص؛ وازدادت متطلبات الحياة وبدأ يفقد مع مرور ‏الأيام أهم شيء في الوظيفة وهي البرستيج.  بدأ يظهر أمام البواب عاجزاً خاصة عندما ‏رفض  دفع أجرة المصعد لحججٍ واهيةٍ وهي قلة احترام البواب له. وعرف قيمة ما فقد ‏بالتقاعد عندما قال له صاحب العمارة لا أستطيع طرد البواب ولكن إن أردت أنت أن تترك ‏العمارة فلك ذلك؛ أي أنه ضحى به ولم يضحي بالبواب. ‏
 
‏ اضطرته ظروف  العمل أن يقبل بتأجير شقته مفروشة حتى يحصل على الأجرة المرتفعة؛ ‏وبدأ يتودد  للبواب الذي كان يأنف من السلام عليه ويسمح لزوجته أن تقدم القهوة للبواب، ‏ثم صعد ليسكن على السطوح جاراً للبواب مشتركاً معه بحمام واحد للعائلتين.  ‏
كل هذا لا يهم؛ ما يهم أن السيد فرحات بمنظره الذي ما زال يحتفظ ببقية منه من أيام ‏الوظيفة لفت نظر البواب عبد التواب فوقع فريسة له؛ فاستغله في عمليات نصب واحتيال ‏على المواطنين ليأخذ فلوسهم بعمارات وهمية. وكان (قمة) السقوط عندما زور شخصية آخر ‏ليحتال على صاحب أرض (ليلهفها) البواب برخص التراب.‏
 
لهذا ربما شكَّل بعض المتقاعدين صيداً سهلاً لأمثال عبد التواب البواب.  فتكثر مثلاً من ‏المتصيدين لهم عبارات مثل عندي مشروع وبحاجة لشريك ليسقط في حفرة عميقة تأتي ‏على مكافأة نهاية الخدمة إن بقي منها شيء.  للتوضيح طبعاً لا أشكك بدعوات الآخرين  ‏ولكنها دعوة للمتقاعد أن لا يقع في مشروع لا يفهم فيه شيئاً فيناله (من الجمل أذنه) كما ‏يقول المثل؛ هذا إذا حصل على الأذن فعلاً. ‏
 
منذ سنوات وأنا أشاهد إعلانات على الفضائيات بالأردن عن شركات لا أستريح لها وقد كتبتُ ‏عنها ذات يوم وهي أيضاً تطمع في مكافأة المتقاعد فيقع في حبالها. هي شركات ظاهرها ‏التمويل وباطنها النظر لراتب المتقاعد. والأدهى من هذا والأخطر هو شراء راتب التقاعد ‏المدني أو راتب الضمان؛ فيحصل على مبلغ ليدخل مشروعاً لا يفهم فيه شيئاً وعندها ‏يكتشف أنه خسر الدنيا كلها. ‏
 
هذه شخصية فرحات بيه. وهذا تصوري لحياة الموظف لما بعد التقاعد.  لا أدري إن كنت ‏مصيباً أم لا ولا أستطيع الحكم مسبقاً فأنا حديث عهد بالتقاعد.  لا أرسم صورة قاتمة طبعاً ‏ولا أشكك بكل أصحاب المشاريع ولكنها دعوة للمتقاعد أن يكون حذراً جداً.  وبالمناسبة ربما ‏يكون لدى القارئ الكريم صوراً أكثر بشاعة من صورة فرحات بيه. ‏
 
وكل عام والمتقاعدين مدنيين عسكريين  بألف خير.‏
 
Talkhatatbah.blogspot.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد