في الرمق قبل الأخير من القرن الماضي، كنت أغطي قطاع التعليم والتعليم العالي لصحيفة "الرأي" أيام عزها، (لقد هرمنا)، كنت في المصعد صحبة رئيس الجامعة الاردنية آنذاك، سألته: هل ستطبقون نظام البرنامج الموازي؟ سرح لبرهة قبل أن يجيب: "الموازي هو انتهازية الدولة حيال أبنائها".. ثم نظر إليّ نظرة مغزاها.. (حكي الأسانسير مش للنشر).
بعد عام، لحقت الأردنية بـ"اليرموك" و"العلوم والتكنولوجيا"، وأقرت برنامج الموازي ليرفد الجامعة بما يغطي جزءا من التزاماتها.
كانت "الأردنية تطبق آنذاك "البرنامج الدولي" الذي يدر عليها دخلا مقبولا، قبل أن تبدأ الحكومات المتعاقبة تنفيذ سياسات بعيدة المدى لرفع أيديها عن المرافق الخدمية ورفع الدعم بمختلف أشكاله عن المواطنين، بدءا من حكومة عبدالكريم الكباريتي التي رفعت عام 1996 الدعم جزئيا عن الخبز، مرورا بإنقاص الدعم تدريجيا عن الجامعات الرسمية وتركها وحيدة تتناهبها المديونية والمشاريع المعطلة وغير المكتملة (حكومات عبدالسلام المجالي (الثانية) وفايز الطراونة (الأولى) وعلي أبوالراغب).
كان هذا يجري فيما الأردن يسابق الزمن لدخول النظام (الرأسمالي الأميركي) العالمي الجديد عبر بوابتي (الخصخصة) والانضمام لاتفاقية منظمة التجارة العالمية (العام 2000) متكئة على مجالس نواب هزيلة، غاية وجودها تمرير السياسات الحكومية على حساب المواطنين (حتى الآن).
ومقابل تراكم مديونياتها (ليس هنا مقام تبيان أسبابها) كانت الجامعات الرسمية تزيد أعداد الطلاب المقبولين على البرامج الموازية، بوصفها المنجم الذي يدر ذهبا، مستغلة تحديد أعداد الطلاب المقبولين على قوائم التنافس، والقوائم الاستثنائية (مكرمات الجيش والمعلمين والمخيمات (مجموعها 25 بالمئة تقريبا من المقاعد المتاحة) والبادية والمدارس الأقل حظا (10 بالمئة).
وبذا، كانت مقاعد الموازي، والدولي، تأتي خارج الحسبة، بلا رقيب ولا حسيب، وبعيدا عن إيلاء النظر إلى تأثير ذلك على مستوى التعليم الجامعي الذي بدأ يتراجع لأسباب عدة، منها إتخام التخصصات بأعداد كبيرة من الطلبة، وهي المعضلة التي واجهتها، وما تزال، هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي، التي صدر قانونها عام 2007
مع الجامعات الرسمية، وتحديدا في التخصصات المطروحة قبل ذلك التاريخ.
تساؤلان كانا يطلان آنذاك على استحياء الأول: هل كان الطلبة المسجلون في البرنامج الموازي سيضطرون إليه لو ألغيت الاستثناءات؟ والآخر، وبحدة أقوى: بما أن الجامعات الرسمية قادرة على استيعاب طلبة الموازي في تخصصاتها، فلماذا لا تتوسع في عدد الطلبة المقبولين تنافسيا لتشملهم، خصوصا أن معدلات جميع المقبولين في الثانوية العامة، هي فوق الحدود الدنيا المقررة للقبول، بل إنها صارت تنافسية داخل إطار الموازي ذاته.
التساؤل الأول كان يدخل في باب المحرمات، لأن التهم جاهزة في وجه كل من يفكر في طرحها (التخوين والتنكر لتضحيات أفراد الجيش العربي والنفس الإقليمي).
وهنا، لا خير فينا إن لم نقُلها، وإن كان الأجدى طرق هذا الموضوع لوحده، لكن، درءا لنوايا المتصيدين الذين يزايدون ويخونون بالمجان، أقول: افراد الجيش العربي والاجهزة الامنية، وكذلك المعلمون، هم حبات العيون، وأهلنا ابناء المخيمات الفلسطينية مكانهم سويداء القلب.
غير أن "الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين".. كما أنه "تكفل الدولة العمل والتعليم ضمن حدود إمكانياتها وتكفل الطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع الأردنيين". وفقا لمنطوق الدستور وروحه.
وعلى هذا، لا يفترق ابن العسكري أو رجل الأمن عن ابن عامل النظافة أو ابن المزارع او الممرض ... وأي أردني شريف (أنثى ام ذكرا) يعمل من موقعه في بناء هذا الوطن الذي نعشق في الحق بالمساواة في التنافس وفقا لمعدلاتهم في امتحان الثانوية العامة (وهذا الأخير يحتاج وقفة مطولة).
هذا لا يعني بأي حال من الأحوال انه يجب ان يُترك أبناء العاملين في الجيش والأجهزة الأمنية (ملح الأرض) هكذا، وكلنا يعلم أن ما يتقاضاه آباؤهم بالكاد يكفيهم مؤونة العيش، فيما هم يبذلون أرواحهم على مذبح الوطن، في زمن تضخم دور دعاة "الخصخصة" و"العولمة الأميركية" و"أصحاب البزنس واقتصاد السوق" و"العيارين والشطار".. ولن أقول "الفاسدين".
يجب على الدولة أن تؤمن جميع أبناء المقبولين في الجامعات من أبناء العسكريين والمعلمين بمنح دراسية، تفي ولو جزءا من أفضال آبائهم علينا جميعا وعلى الوطن، وتحمل عنهم الأعباء والكلف المالية لتدريسهم.
هذا رأي شخصي، لا علاقة له بالحراك الطلابي (الذي لم يطرح هذه المسألة أبدا) ولا بأي جهة كانت، وحتى لا يتخذه أحد حجة للطعن والمزايدة، فلنضعه جانبا، لأنه يحتاج الكثير من الدراسة والبحث ومناقشة البدائل والطروحات الممكنة.
اما أبناء العشائر والمدارس الأقل حظا، فأتساءل.. كيف إلى الآن ما يزال أبناء بوادينا يعانون من عدم تلقي التعليم الكافي المساوي في الجودة لأبناء المدن والحواضر.. بعد نحو تسعين عاما من عمر هذه الدولة التي علم أبناؤها أبناء دول الخليج العربي، التي تقدمتنا لاحقا بأشواط في جودة التعليم، وإلى متى تبقى هناك مدارس أقل حظا؟ ومن المسؤول؟ .
للعلم، مكرمة المدارس ذات الظروف الخاصة (أو الأقل حظا)، أقرت عام 1995، على ان يتم تصويب أوضاع تلك المدارس لتساوي نظيراتها في البنى التحتية والتعليمية والكوادر البشرية، خلال خمس سنوات، إلا أن واقع تلك المدارس بقي على حاله، لتلحق بها ايضا مدارس أخرى وتصنف بأنها أقل حظا.
عودا إلى الموازي.. وعلى رغم عدم رغبتي في دخول لعبة الأرقام، التي هي وجهات نظر، إلا أن الواقع يقول أن طلبة "الموازي الذين يشكلون 30 بالمئة من أعداد الطلبة، يضخون لجامعاتهم 500 مليون دينار سنويا، ليسدوا الكثير من العجز المالي لدى هذه الجامعات، في الوقت الذي تنسحب الدولة من أداء التزاماتها حيالها.
لو أن ما تجبيه الحكومة من رسوم وضرائب باسم الجامعات يصل إليها، لكفتها مؤونة رفع الرسوم من آن لآخر. ولو أن هذه الجامعات بما تمتلكه من خبرات وإمكانات، تبتدع أساليب ومشروعات واستثمارات، لخففت على الطلبة وآبائهم وابتعدت عن سياسة "الرفع النسورية".. لو!.
لست من طبقة الأغنياء، وإنما الوسطى المنحدرة بتسارع نحو الفقر، بفضل سياسات حكومتنا الرشيدة التي تبتدعها في الإفقار، ولا أعرف طالبا يدرس ضمن "الموازي" إلا ووالده "مسخمط" يلهث ليل نهار يبيع ما تبقى له من إرث، ويستدين، ليحقق حلم فلذة كبده ويؤمن له تعليما جيدا..
طلبة الموازي الذين أعرفهم، آباؤهم ليسوا أغنياء، لكنهم كما آباؤنا"بدوا وزنوجا وفلاحين"، قدموا كل ما يستطيعون ليؤدوا واجبهم حيالنا.. فلنتق الله فيهم وفي الوطن.