العراق .. البحث عن هيبة الدولة! - رشيد الخيُّون

mainThumb

05-05-2016 09:05 AM

تعاقب على بغداد، من بداية زمنها العباسي (145هـ) إلى يومنا هذا، كثير من الخراب وقليل من العمران، وفي الكثير من الأزمنة غلبت عليها الفوضى، بلا دولة ونظام، وكان الأشهر منها ما أسفر عن الحرب بين نجلي الرشيد (ت 198هـ)، وآنذاك تبدلت مهمة المطاوعة (الطبري، «تاريخ الأمم والملوك»). والتسمية جاءت من التطوع في الحرب أو القيام بمهام ضبط النظام في أوقات فراغ السلطة، حتى تعاظم أمرهم ليتطلعوا إلى خطف السلطة باسم «الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر»، وكان ما كان بينهم وبين حكومات ذلك الزمان من مواجهات. قلنا الأشهر لأن بغداد تعرضت كثيراً لنوبات الخراب، يوم اُحتلت من قِبل البويهيين ثم السلاجقة فالمغول، ناهيك عما كان يحصل خلال النزاع العثماني الصفوي، من فوضى ومَقاتل.
 
 
 
أما في العصر الحديث فالأشهر ما أسفر عن غزو العراق، عندما هُدمت مؤسسات الدولة عن بكرة أبيها، وظهر المطاوعة بعذر حماية النظام، لا يحملون عصياً هذه المرة ولا كتاب الله، وإنما أسلحة نارية، حتى تمكنت الميليشيات من فرض سيطرتها، والنتيجة أن «داعش» احتلت الموصل والمناطق الغربية، وعشرات الميليشيات تفرض هيمنتها، فصار لقادتها ما لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والجامعات تعلق اللافتات مرحبة بقادة هذه الميليشيات، وبهذا يصعب الحديث عن وجود دولة، في ما حصل ويحصل خلال ثلاث عشر سنةً.
 
 
 
شفقتُ على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والوزراء والنواب) وهم يبحثون عن هيبة الدولة، أو ما عبر عنه رئيس النواب خلال لقائه بوزير الداخلية طالباً منه «إعادة هيبة الدولة»، وكأن هيبة الدولة مرتبطة بالمنطقة الخضراء، التي أراضيها ومبانيها نُهبت بالأساس من قِبل من يتحدثون عن إعادة هيبة الدولة. فرئيس النواب من جماعة إسلامية مرشدها الأعلى (بمصر وليس بالعراق) قال «طز بمصر»! أما وزير الداخلية المكلف بإعادة هيبة الدولة فينتمي إلى ميليشيا، قرارها بيد المرشد بطهران.. فعن أي هيبة يتحدثون؟ لم يستفزهم أبوبكر البغدادي بالموصل، ولا وجود الجنرال قاسم سليماني في اجتماعات الكتل السياسية، وهو قائد في دولة أجنبية! فعن أي هيبة للدولة يتحدثون، وعضو في مجلس النُّواب يصرح: «كلنا حرامية»؟! فمَن يُحاسب مَن؟
 
 
بمناسبة ضياع الدولة والبحث عن هيبتها، في وجوه الفقراء وعيون الأرامل والأيتام والأطفال الضائعين، سأذكر كيف اختلفت الآراء في الإمامة، وهي من أهم أركان الدولة في رأي البعض، وكأن الذين تجادلوا في هذا الأمر نظروا في ضياع تلك الهيبة، عندما هتكت العاصمة بغداد آنذاك، مثلما هُتكت اليوم، ويغلب على الظن أن كثرة الفساد والفوضى جعلت أحد شيوخ المعتزلة هشام الفُوْطي (ت221-230) يربط وجود الدَّولة بوجود الفساد. قال: «إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوباً لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته» (الشهرستاني، الإقدام في علم الكلام). الخلاصة: «الناس لو كفوا عن الظلم لاستغنوا عن الإمام» (النسفي، تبصرة الأدلة). غير أن أبا الحسن الأشعري (ت 324هـ) حصر المقولة المتقدمة بتلميذ الفُوْطي أبي بكر الأصم (ت 201هـ): «فالناس كلهم، إلا الأصم، لابد من إمام» (الأشعري، مقالات الإسلاميين).
 
 
وبعد قرون يأتي فردريك أنجلز (1895) بفكرة اضمحلال الدولة، إذا طُبقت العدالة وانتهى التفاوت الطبقي (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة). كذلك لإخوان الصفا (الرَّابع الهجري) رأيهم: «اعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدي، وغاية إليها ترتقي، وحدٌ إليه تنتهي. فإذا بلغت أقصى غاياتها ومدى نهاياتها، تسارع إلى الانحطاط والنّقصان، رويداً رويداً في أهل الشّؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوي هذا ويزيد هذا، ويضعف ذاك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم، ويستمكن الآتي المتأخر». (الرِّسالة الرابعة من القسم الرياضي، في الجغرافيا).
 
 
على أي رأي يُنظر لوجود وغياب دولة «المنطقة الخضراء»: هل على ضرورتها لكبح المفاسد وضبط النظام؟ لا مفاسد كُبحت ولا نظام ضُبط، ولا سلاح ولا صوت يعلو على سلاح وصوت الميليشيات، وبالتالي لا ضرورة لوجود مثل هذه الدولة العاجزة، رئيس حكومتها مازال خائفاً من مسؤوله الحزبي ورئيس كتلته.. أم أنها تلاشت بعد تحقيق العدالة، وصارت لا حاجة لها، حسب المعتزلة والماركسية؟ أم أن أهل الشؤم والخذلان صاروا ولاتها فانتحرت، على رأي إخوان الصَّفا؟ أقول: وفق أي المفاهيم والآراء تعاد هيبة الدولة؟ وهل كانت لها هيبة كي تُعاد أو يبحث في إعادتها؟ ويبقى الأمل في الانفجار، فلو صمت العراقيون لماتوا كمداً.
 
 
 صحيفة "الاتحاد" الإماراتية


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد