صوتُ ستّي مدللة يعودُ مِن مَنفاه!‏

mainThumb

05-05-2016 10:13 AM

آمال عوّاد رضوان
 
أقامَ مجلسُ كوكب المحلّي واتّحادُ الكرمل للأدباء الفلسطينيّين ومكتبة "كلّ شيء" ندوة أدبيّة ‏للكاتب مصطفى عبدالفتاح، في قاعة المدرسةِ الثانويّةِ لمديرها يوسف منصور في كوكب ‏أبوالهيجا، لتوقيع روايتهِ (عودة ستي مدللة) بتاريخ 5-3-2016، وسط حضورٍ كبيرٍ مِن أهالي ‏كوكب أبو الهيجا وأدباء وأصدقاء، وقد تولّى عرافة الأمسية الكاتب والمسرحيّ عفيف شليوط، ‏وتحدث كلّ مِن: رئيس مجلس كوكب ابوالهيجا المحليّ السيد زاهر صالح، عن أهمّيّةِ رعايةِ ‏النشاطاتِ الثقافيّةِ والفنّيّةِ، والناشرُ صالح عبّاسيّ مدير مكتبة "كلّ شيء"، حول مكانةِ الروايةِ في ‏معارض الشارقةِ والقاهرة، والناطقُ الرسميُّ لاتّحادِ الكرمل علي هيبي عن نشاطات الاتحادِ ‏القادمةِ، وكانت قراءات نقديّة لكلّ مِن د. بطرس دلة ود. محمد صفوري، وقد ألقى الشاعر أحمد ‏صالح طه قصيدتيْن بعنوان "لغتنا الجميلة" و"همس القدس"، وقدّمت المُربّية عبير أبو الهيجاء ‏مديرة المدرسة الابتدائيّة في كوكب درعًا كهديّة رمزيّة، وقدّم أحمد الحاجّ ممثل جبهة كوكب ‏الديمقراطيّة ورئيس مجلس كوكب السابق درعًا تقديريًّا، وقدّمت فرقة كوكب للدبكةِ وصْلة شعبيّة، ‏بتدريب الفنّان مروان طاطور، وقدّم مُصمّمُ غلافِ الرواية الفنّان فوزي الحاجّ لوحة رسْمٍ للكاتب ‏بريشتِهِ، وفي نهايةِ اللقاءِ شكرَ المُحتفى بهِ الكاتب مصطفى عبد الفتّاح الحضورَ والمُتحدّثين ‏والمُنظمين والداعمين، وتمّ التقاط الصورِ التذكاريّة!‏
مداخلة العريف عفيف شليوط: كانت القبائلُ العربيّة في السابق تفخرُ بشعرائِها، وتعتزّ بقادتِها ‏ورؤساء قبائلها‏،‏ ولهذا لم يكن غريبًا أن يُدافعَ امرؤ القيس الشاعر عن سلطان أبيه‏،‏ أو أن يكون ‏الوزير العاشق ابن زيدون وزيرًا للحربيّة والخارجيّة في وقت واحد.‏‎ ‎وفي بداية القرن الماضي ‏ظهرَ أحمد شوقي أميرُ الشعر العربيّ، وفي فترة من حياتهِ كان صوتًا للقصر‏،‏ ثم أصبح صوتَ ‏الشعب والأمّة بعد أن عادَ مِن منفاهُ في إسبانيا‏،‏ وبجوارهِ كان شاعر النيل حافظ إبراهيم صوتَ ‏مصر الصادق النبيل‏،‏ وقبلهما كان البارودي، وتاريخ من الأمجادِ والغربة‏ تاريخٌ حافلٌ للشعر ‏والقراء في مسيرة الأحداث والأيّام،‏ فكان الشعرُ دائمًا من أهمّ الشواهد الحيّة لذاكرة الأمّة‏، وكان ‏من حقّ كل قبيلة أن تفخرَ بشعرائها، واليوم مِن حقّ قرية كوكب أبو الهيجا أن تفخرَ بأديبها ‏مصطفى عبد الفتاح، ومن حقّ رئيس مجلسِها أن يعتزّ بأن نشأ في قريته أديبٌ كمصطفى عبد ‏الفتاح. ‏
نشرَ مصطفى عبد الفتاح العديدَ مِن المقالاتِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ والقصصِ القصيرة في جريدة ‏الاتحاد، ومجلة الإصلاح، وشذى الكرمل، ومجلة الغد الجديد، ومواقعَ إلكترونيّةٍ عديدة،  وهو ‏يستعدّ في هذه الأيّام لإصدار روايته الثانية، التي ستصدر عن منشوراتِ مؤسّسةِ الأفق للثقافة ‏والفنون في حيفا. الكاتبُ مصطفى عبد الفتاح ابن كوكب أبو الهيجا القرية  الجليليّة، أنهى دراستَهُ ‏الجامعيّة في التاريخ العام وفي علم المكتبات والمعلوماتيّة، ويعملُ حاليًّا مديرًا للمكتبةِ العامّة في ‏قريته. ‏
نحتفلُ هذا المساءَ بصدورِ روايةِ "عوْدة ستّي مدلّلة " للكاتب‎ ‎مصطفى عبد الفتاح‎ ‎ابن قرية كوكب ‏أبو الهيجاء، والتي لاقت رَواجًا كبيرًا في معرض الشارقة الدوليّ، وتقعُ في 194 صفحة مِن ‏الحجم المتوسط، وتزيّنُ الغلافَ لوحة الرسّام فوزي حاج. تُعالجُ الرواية أهمَّ القضايا السياسيّة ‏النفسيّة والاجتماعيّة، التي رافقتْ وترافقُ اللاجئين الفلسطينيّينَ في الوطن، والمُنتظرينَ العودة إلى ‏قراهم وهم على مَرمى حجرٍ منها، فيصفُ وصْفًا دقيقا وبأسلوبٍ سرديٍّ راقٍ دروبَ الآلام التي ‏سارَ عليها الفلسطينيّون، وتحدّياتِ البقاءِ في ظروفٍ وواقع يَكادُ يكونُ مستحيلًا. تحملُ الرواية في ‏طيّاتِها صورة رائعة عن نضال المرأةِ الفلسطينيّةِ، ودوْرَ قوّتِها وإصرارها وقدرتِها على الصبر ‏والتصدّي والصمودِ في وجهِ أعتى آلات الدمارِ لوطنٍ يَسكنُ في القلب. يَرسمُ صورة آسِرةً عن ‏واقع الأسرةِ الفلسطينيّةِ ومُعاناتِها اليوميّةِ منذ النكبةِ وحتّى اليوم، وتُظهرُ مدى الحنين والشوق ‏للعودةِ، وتُظهرُ الآثارَ النفسيّة والمعاناةَ اليوميّة التي يَعيشُها الفلسطينيُّ في المهجر ووطنِهِ القريبِ ‏البعيدِ‎.‎‏ ‏
مداخلة د. محمّد صفّوري/ عودة ستّي مدلّلة- عودةٌ بلا عودة:‏
‏1* أفكار من وحي المضمون: "عودة ستّي مدلّلة" هي رواية بكرٌ للكاتب مصطفى عبد الفتّاح، في ‏عالم الفنون السّرديّة. تحكي الرّواية قصّة نكبةِ الشّعب العربيّ الفلسطينيّ عام 1948، وما مُهّدَ لها ‏مِن مؤامراتِ الانتداب الإنجليزيّ، وتخاذل الدّول العربيّةِ عن مساندة الشّعب الفلسطينيّ، في تلكَ ‏المحنة الّتي نالت منه حتّى تحوّل إلى شعب مشرّد في الأقطار العربيّة وغيرها من دول العالم، كما ‏تصوّر الرّواية الممارسات الدّنيئة لِما يُسمّى بجيش الإنقاذ ونهب ثرواتِ البلاد، وحين استغاثت به ‏البلادُ لردّ الغبن عنها، اختفى من الحلبة حتّى غدا أثرًا بعد عين، ناهيك بالدّور الّذي قامت به ‏العصابات الصّهيونيّة وجنودها في بثّ الرّعب والهلع في نفوس النّاس؛ ممّا دعاهم إلى ترك ‏بلادهم حتّى لا تتكرّر مجزرة دير ياسين، وهذا ما تؤكّده الرّواية، وهي تنقل ما صرّح به النّاس ‏قائلين: "لن ننتظر حتّى يقوم اليهود بذبحنا كما فعلوا في دير ياسين، سنذهب إلى مكان آمن حتّى ‏تهدأ الأمور" (الرّواية: ص49). وتلتفت الرّواية، في مواضع أخرى، لإبراز دور العملاء العرب ‏ومساعدتهم السّلطة في إقصاء الفلسطينيّ إلى لبنان والدّول العربيّة المجاورة كلّما عاد إليها متسلّلًا. ‏إنّها حكاية معروفة للقاصي والدّاني، ويعلمها الغريب مثل القريب، وقد وثّقت في أعمال روائيّة ‏كثيرة أبرزها، في اعتقادنا، رواية "باب الشّمس" لإلياس خوري"، كما وثّقت في سجلّات التّاريخ ‏وحفظت في بوتقة عصيّة على الانصهار ، وعليه لن نعود لسرد الحكاية المعروفة للجميع.‏
أمّا السّؤال الرّئيس الّذي يتبادر إلى الذّهن فهو: ما الجديد الّذي تقدّمه الرّواية؟ في الإطار العامّ ‏للحكاية لا نجد جديدًا يمكن الإشارة إليه. أمّا الجديد الّذي نترسّم آثاره فهو  إسناد دور البطولة للمرأة ‏ممثّلةً بستّي مدلّلة، وهي شخصيّة تظهر منذ بداية الرّواية ومع غيابها تنتهي. تتطوّر أحداث ‏الرّواية مع حركة وفاعليّة هذه الشّخصيّة، فضلًا عن الوعي الرّاقي الّذي تتمتّع به، وهو وعي ‏تؤكّده الرّواية في كلّ حركة من حركاتها، وفي كلّ تعبير يصدر  عنها. الحقيقة الّتي لا مراء فيها ‏أنّ ستّي مدلّلة هي كلّ الرّواية، فمن هي ستّي مدلّلة؟ وما هو الدّور الّذي قامت به؟ إنّها امرأة من ‏قرية صفّورية القريبة من قرية الرّاوي، استشهد زوجها وهو  يقاوم الإنجليز في صفوف الشّيخ عزّ ‏الدّين القسّام في حرش قرب قرية يعبد، وترك لها ابنًا يدعى أمين وابنة تدعى سميحة، قام أمين ‏على رعاية عائلته وتدبير شؤون الدّكّان، وقد ترعرع على مقاومة الظّلم فصار مقاوما للإنجليز ‏والعصابات الصّهيونيّة كوالده وأخواله، فأبلى بلاء حسنًا دفاعًا عن قريته الّتي سقطت بأيدي ‏اليهود، فنزح عنها سكّانها إلى القرى المجاورة، ومن ثمّ إلى لبنان.‏
تسجّل الرّواية عدّة مواقف مشرّفة لستّي مدلّلة عجز الرّجال عن القيام بها، فقد رفضت مغادرة ‏قريتها رغم الخطر المحدق بها، وحين اضطرّت لذلك بادرت إلى العودة مرّات كثيرة. يتصدّى لها ‏أحد الجنود محاولًا منعها من العودة، فلا تأبه به وتواصل سيرها باتّجاه بيتها؛ ممّا يضعضع ثقته ‏بما يفعل، ويلوم نفسه على القدوم من أوروبا بعد أن نجا من براثن النّازيّة الّتي قتلت والدته. تعود ‏ستّى مدلّلة بعد توقّف الحرب إلى القرية، لكنّ الضّابط المسؤول يعلن منع الدّخول إليها، فتقوم ‏مدلّلة بتحريض النّاس وعدم الامتثال لأوامر الضّابط قائلة: "لا  تتركوا بيوتكم، لا تتركوا بلدنا، لا ‏تتركوا أرضنا، هذه القرية لنا [...] الاحتلال يأتي ويذهب وأهل الوطن باقون فيه إلى الأبد" ‏‏(ص59). لم يكن من سبيل أمام النّاس سوى الرّجوع عن القرية بعد زخّات الرّصاص الّتي هدّدت ‏حياتهم، فلجأوا إلى القرى المجاورة حفاظًا على حياتهم، أمّا مدلّلة فقد تابعت محاولات العودة إلى ‏قريتها دون جدوى، فتبعت أهل بلدها دون أن تتخلّى عن إصرارها على العودة، ويشتدّ أملها ‏بالعودة إلى قريتها بعد أن عادت من لبنان إلى قرية الحاج عبد الكريم القريبة منها، دون أن تتنازل ‏عن إصرارها بالعودة إلى قريتها، تقول: "لا يدوم على حاله إلّا هو، سيأتي يوم ونعود إلى قريتنا، ‏أمنيتي الوحيدة أن يدفنوني هناك إذا لم أستطع العودة إليها"(ص171). ‏
تقرّع الرّواية أهلَ البلاد لتسهيل عمليّةِ احتلالِها، ومن ثمّ تدميرها حين أسرعوا إلى تركِها خوفًا ‏من أن تلحق بهم المجازر الّتي لحقت بغيرهم، دون أن يبذلوا أيّ جهدٍ في الدّفاع عنها أو التّمسّك ‏بها، وذلك خيانة كبرى للبلاد وفقَ ما يستشفّ الرّاوي من مشاعر ستّي مدلّلة النازحة في لبنان عن ‏قريتها إذ يقول: "كانت تشعر بشيء من تأنيب الضّمير، وتصف نفسها بالخائنة؛ لأنّها تركت بلدها ‏وهان عليها تراب الوطن وكلّ ما تملك، وتردّد دائمًا في حديثها أنّ أهل القرية تسرّعوا وتركوا ‏القرية، لم يحاولوا الدّفاع عنها كما يجب" (ص74).‏
في موضع آخرَ مِن الرّواية تُعلّل ستّي مدلّلة ما أصاب أهل صفّورية، بكوْنهِ نتيجة حتميّة لسلوكِهم ‏المُشين، وفي ذلك تقول: "ما هجّت صفّورية من خير فيها، ما هجّت صفّورية إلّا من ظلمها يا ‏ستّي، كانت قتلة الزّلمة عندهم زي شربة السّيجارة [...] الله عليك يا قسطل... ما أقسى مياهَك، لا ‏تشرب يا ستّي من ماء القسطل، إيّاك ثمّ إيّاك" (ص171 – 172).‏
بعد عودة ستّي مدلّلة من لبنان واستقرارها في قرية كفر مندا القريبة من صفّورية، ترفض عرض ‏الحاج عبد الكريم، صديق عائلتها الّذي وجدها فرصة سانحة لردّ بعض جميل أهلها عليه، إذ يهبُها ‏دارًا صغيرة وقطعة أرض، لكنّها تصرّ على دفع ثمنها، رغم ما تشعر به من تنازلها عن حلم ‏العودة، يقول الرّاوي: "كان امتلاك البيت بالنّسبة لها هو نوع من الاستقرار والرّاحة النّفسيّة بعد ‏طول المعاناة وألم الغربة والتّهجير، ولكنّه أيضًا يشير إلى أنّ رحلة الغياب ستطول، والحنين إلى ‏القرية والأرض والأهل والخلّان سيزداد ويكبر كلّ يوم، صارت تواسي نفسها بالقول: لا بأس، ‏بيت مؤقّت لحين عودتنا إلى بلدنا وأرضنا"(ص 9).‏
لا تطيق مدلّلة طول انتظارها، فتشغل نفسها بزراعة الأرض الّتي اشترتها بكلّ أنواع الشّجر ‏والبقول الّتي عرفتها في قريتها، لتغدو حديقتها صورة مصغّرة عن صفّورية، يقول الرّاوي: ‏‏"جعلت منها جنّة على الأرض، استنسخت فيها بلدتها، حتّى أنّ أهالي القرية كانوا يحسدونها، ‏فأطلقوا عليها صفّورية الصّغيرة"(ص 165). بذلك تحتال ستّي مدلّلة على ذاتها، وعلى الظّروفِ ‏الّتي حالتْ دون عوْدتِها إلى قريتِها، متّخذة من قطعةِ أرضِها الجديدة تعويضًا مؤقّتًا ريثما تعود إلى ‏قريتها. ‏
لم تعد ستّي مدلّلة تقوى على مقاومة الحنين لقريتها، وهي لا تعدّ نفسها لاجئة، وكان حلمها بالعودة ‏هو كلّ ما يشغلها، ممّا جعلها ترى نفسها في الحلم عائدة إلى قريتها، تمارس حياتها فيها كما كانت ‏من قبل، ولمّا صحت من حلمها ظنّت أنّها تأخّرت في النّهوض صباحًا رغم انّ الوقت مساء، ‏تحاول عدّة مرّات العودة إلى قريتها فيثنيها النّاس عن ذلك، دون أن تعي الحالة النّفسيّة الّتي ‏سيطرت عليها. تمتنع عن الطّعام، فيصيبها المرض والهزال، لكنّها تستمرّ  في إصرارها على ‏العودة، وحين تشعر بالوهن والتّعب تستلقي في فراشها، بعد أن سلّمت حفيدتها مفتاح بيتهم في ‏صفّورية؛ لتسبقها إليه ريثما تستريح هي لبعض الوقت، ثمّ تلحق بهم، لكنّها تستريح إلى الأبد، ‏وتلحق بالرّفيق الأعلى، دون أن تحقّق حلمها بالعودة، فتدفن بعيدًا عن قريتها، وقد وضع ابنها أمين ‏على صدرها كيسًا مملوءًا  بتراب صفّوريّة، ورشّها بماء القسطل وهو يقول: "لم أستطع أن أعيدك ‏إلى صفّورية فأعدت صفّورية إليك"(ص 192). هكذا تقضي ستّي مدلّلة من هذه الحياة دون أن ‏تقضي على حلم العودة، وهي تسلّم مفتاح بيتها لحفيدتها لتكمل المشوار وتحقّق الأمل بالعودة.‏
تبطّن الرّواية بعضَ الأفكار الأخرى الّتي تؤكّد في معظمها أنّ الشّعب الفلسطينيّ شعب حيّ، ‏صامد، منخرط في مختلف مجالات الحياة رغم كلّ ما أصابه، فلم تتمكن ظروفُ حياتِهِ الشّاقة أن ‏تنالَ منه، وتقعده عن مواصلةِ الحياة، بل بقي مُحبًّا للحياة يُمارسها كسائر الشّعوب، رغم ما يُثقل ‏كاهله من أعباء، فقد أحبّ أمين فاطمة ابنة الجيران وتمنّى الزّواج منها، لكنّ نداءَ الواجب يُملي ‏عليه نسيانَ أو تناسي ذلك الحبّ، حين يُداهمُ الخطرُ بلدَهُ، أهله وناسَه، وحين تعترضُ طريقه إلى ‏مقاومة المحتلّ، وتعطيه منديلًا ليتذكّرَها، يَشعرُ بخفقان قلبه نحوَها، لكنّه يتراجع خجلًا وهو ‏يهمس لقلبه: "لا وقت للحبّ في وقت الحرب"(ص34). وعندما يستقرّ بهم المقام في لبنان يتمّ ‏لهما الزّواج، ومن ثمّ العودة متسلّلين بصحبة والدته إلى البلاد. ناهيك بما تكشف الرّواية من تكافل ‏الشّعب الفلسطيني وتعاونه، ومن ذلك تهافت جارات ستّي مدلّلة على بيتها الجديد وكلّ منهنّ تحمل ‏شيئًا من المؤونة حتّى امتلأ بيت ستّي مدلّلة بالموادّ الغذائيّة(ص 108).‏
‏2* ملاحظات أسلوبيّة: يبدأ سرد الرّواية من نهايتها أو من موضع قريب من النّهاية مستخدمًا ‏الضّمير الثّالث(الغائب)، وهو ما يعرف بالمبنى المقلوب للرّواية. يعلن الرّاوي عن استقرار ستّي ‏مدلّلة في قرية قريبة من قريتها برعاية الحاج عبد الكريم، صديق عائلتها، ثمّ يتحوّل السّرد إلى ‏سرد استرجاعيّ في معظم أحداث الرّواية، يحرّكه الرّاوي العليم بكلّ تفاصيل حكايتها حتّى موتها ‏، لكنّه يطعّم سرده ببعض المقاطع الحواريّة المنتشرة في مواضع مختلفة من الرّواية، ليخفّف من ‏رتابة السّرد أو ليضفي مزيدًا من الواقعيّة على الرّواية، ونحو ذلك.‏
ما يميّز أسلوبَ الرّواية حضورُ المونولوجات الّتي تستدعيها أحداثُ الرّواية وحالة الشّخصيّة ‏النّفسيّة، إذ يكشف من خلالها ما تبطّنه الشّخصيّة من أفكار يمكن أن تغيب عن مدارك القارئ، ‏دون استخدام تلك المونولوجات، ومن ذلك ما تحدّث ستّي مدلّلة به نفسها بعد طردهم من القرية، ‏مبيّنة قسوة المحتلّ بقولها: "والآن يفصلوننا عن أنفسنا، يفصلون الرّوح عن أختها، الابن عن أمّه، ‏والأخ عن أخته، والبيت عن حجارته، أيّ قوم هؤلاء"(ص132). وحين تدرك ما جرّ اللّجوء ‏عليها، وما خسرت جرّاء الاحتلال، تدخل في مونولوج قصير يصوّر قلقها على مستقبل بلدها، ‏ابنها، أهلها وكلّ ما تحبّ، وذلك في قولها: "أين أمين، ابني وقرّة عيني؟ أين الأهل والأخوة؟ أين ‏الأقارب، أين الأصدقاء؟ أين أبناء القرية؟ أين الأرض؟ أين الوطن؟ أين الماء والخضرة؟ أين ‏الحيوانات والنّباتات في أطراف البيت وحدائقه الغنّاء؟ من يعوّضنا عن كلّ ذلك؟" (ص110).‏
يبتدع الرّاوي بعض الصّور الوصفيّة الّتي تترك انطباعًا إيجابيًّا في نفس القارئ لما تعكس من ‏وصف دقيق للموصوف بلغة بسيطة لا تكلّف فيها، ومن ذلك قوله في وصف حالة النّاس وقد دبّ ‏فيهم الهلع والخوف من بطش المحتلّ، يقول: "كان منظر القرية يشبه خليّة نحل تعيش بهدوء ‏وسلام منسجمة مع نفسها، متعايشة مع الطّبيعة الغنّاء الّتي هي مصدر حياتها، يقذفها أحدهم بحجر ‏همجيّته ظلمًا وعدوانًا فيهزّ كيانها من الأعماق، يخرج النّحل مستنفَرًا غاضبًا خائفًا قلقًا، يهاجم أيّ ‏شيء يعترض طريقه من أجل أن ينقذ نفسه، وينقذ خليّته المهدّدة بالدّمار"(ص46). ومثل ذلك نجد ‏في مشهد وصف الدّم الّذي سال من رجل أمين فامتزج بتراب الأرض عند ملاحقة العسكر  له، ‏بعد تسلّله ووصوله إلى القرية الّتي تعيش فيها أمّه وزوجته فاطمة، يقول الرّاوي: "كان الدّم يسيل ‏من رجله ليصبغ الأرض بالأحمر القاني، فيمتزج بالتّراب الجافّ ليحوّله إلى كتلة ترابيّة ‏متماسكة، كان الوطن يطلب المزيد من الدّم حتّى تتماسك ذرّات ترابه فتحفظ أبناءه"، ثمّ يعلّق ‏الرّاوي قائلًا: "يا لها من معادلة صعبة لا تعيش إلّا في رأس ثائر يحنّ إلى الأرض ‏والوطن"(ص154). يلجأ الرّاوي في مواضع أخرى من الرّواية إلى المزج بين الأصوات ‏المنبعثة من الطّبيعة وأصوات النّاس على اختلافها، يقول الرّاوي: "أصوات كثيرة لا تحصى ‏تمتزج معًا لتبدع لحن القرية الوادعة الحالمة، موسيقى أبديّة، تعيش يومها وتحلم بغدها الأجمل ‏دون قلق أو وجل. عالم جميل بسيط، مليء بالعلاقات الإنسانيّة القائمة على التّواصل والمحبّة ‏والانسجام الكامل مع الطّبيعة"(ص13). ‏
من الأمور البارزة جدًّا في الرّواية تكرار الحدث ذاته، أو الفكرة، أو العبارة في عدّة مواضع من ‏الرّواية، من ذلك تكرار لصورة القرية عبر الذّكريات الّتي كانت تغرق ستّي مدلّلة في لجّتها، ‏كتصريح الرّاوي عن راحتها في العمل،إذ يقول: "كان يعيد لها ذكرياتها الجميلة في قريتها مع ‏الأهل، والأصدقاء، والأقارب فتزيد من الاعتناء بها. كانت خطوتها هذه محاولة بائسة لتعويض ما ‏خسرت في قريتها"(166). في مثل هذه المواضع يوظّف التّكرار في العمل الأدبي كآليّة إلحاحًا ‏على فكرة معيّنة تسيطر على فكر الشّخصيّة، مثل صورة القرية الجميلة الّتي توظّف كمنبّه دائم ‏على تحقيق فكرة العودة، دون التّخلّي عنها. تتعدّد التّكرارات في الرّواية منها تكرار حدث ‏استشهاد "أبو الأمين" زوج ستّي مدلّلة، وهو يقاوم الإنجليز في صفوف عزّ الدّين القسّام(ص 14، ‏‏19، 21، 130)، أو ممارسات الإنجليز وجيش الإنقاذ ضدّ النّاس (ص15، 17، 39)، تناوب ‏مختلف الأمم على احتلال بلادنا ومن ثمّ رحيلهم كالفرس، الرّومان، العثمانيّين، الإنجليز، اليهود ‏‏(ص20، 59). ومن الأمور الأخرى المتكرّرة في الرّواية؛ الهجوم عل صفّورية في شهر ‏رمضان، الحديث عن بسالة أخوة ستّي مدلّلة ومشاركتهم في مقاومة المحتلّ، ونعتقد أنّها تكرارات ‏هادفة في معظمها تسعى لتأكيد فكرة، أو التّذكير بأمر ما، أو تصوّر حالة شعوريّة تعيشها ‏الشّخصيّة، لكنّنا نرى في بعضها ترهّلًا وكلاما زائدًا لا حاجة له، ولا يعكس أيّ معنى سوى ‏تكرار الحدث فقط.‏
يلاحظ شغف الكاتب بالموروث الثّقافيّ العربيّ، فينهل منه متناصّات كثيرة يوظّفها بوسائل عديدة؛ ‏إمّا بالإشارة أو اللّمحة، ومن ذلك استعارته قالب وفكرة لمحمود درويش وردت على لسان ستّي ‏مدلّلة، ممّا يؤكّد عمليّة إقحام الأمر فهو لا يتناسب مع ثقافة ستّي مدلّلة، وذلك حين وقفت تخاطب ‏الجنود قائلة لهم: "أيّها المحتلّون الجدد خذوا كلّ ما تريدون وارحلوا"(ص59)، وهو تعبير ‏مستعار من ديوان حالة حصار، وفيه يقول درويش مخاطبًا الجنود أيضًا: "أيّها الواقفون على ‏عتبات البيوت، اخرجوا من صباحاتنا، نطمئنَّ إلى أنّنا بشرٌ مثلُكمْ!"(درويش، 2002، 18). ‏ومثل ذلك تلك الجملة الّتي قالها الحاج عبد الكريم عند قبر ستّي مدلّلة: "آن لهذه العنقاء أن ‏تستريح"(ص191) ممّا يذكّرنا بمقولة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق في ابنها عبدالله بن الزّبير بعد ‏أن قتله الحجّاج ومنع تحريره من حبل المشنقة، ليدفن. تقول: "أما آن لهذا الفارس أن يترجّل".‏
‏   في حالات كثيرة يتطلّب التّناص قارئًا تتوازى ثقافته وثقافة الكاتب أو تفوقها ليفهم ما يرمي في ‏تناصّه، كقول الرّاوي: "لا خيار أمام النّاس، فإمّا التّحدّي والمقاومة والوقوف مع ستّي مدلّلة دون ‏حساب[...] أو النّزوح وترك المكان حتّى تهدأ الأمور. كلا الخيارين طعمهما مرّ ومصيرهما ‏الضّياع"(ص 59 – 60)، بذلك يستحضر الرّاوي أبا فراس الحمدانيّ وقصيدته" أراك عصيّ ‏الدّمع" ومنها قوله: "وقال أصيحابي: الفرار أو الرّدى/ فقلت: هما أمران أحلاهما مرّ". وهي حالة ‏تتطابق وحالة النّاس وهم يواجهون المحتلّين بأسلحة غير متكافئة.‏
يأتي التّناصّ أحيانا مباشرًا، لا مواربة فيه، ومن ذلك عندما تسترجع فاطمة قصيدة للشّاعر جميل ‏صدقي الزّهاوي؛ لأنّها تعيش نفس الحالة الشّعورية الّتي تصوّرها القصيدة، وكأنّ الشّاعر يتحدّث ‏باسمها، معبّرًا عن شوقها لأمين بعد غياب طويل، ومما جاء فيها: "قد تنبّهَتْ في ليلها فتذكّرَتْ/ ‏أليفًا غدا عنها ولم يعد الغادي. وقالت تناجي نفسها: ما لصاحبي    تأخّر عن ميعاده غير معتاد" ‏‏(ص137).‏
لعلّ من أكثر المتناصّات إثارة للمشاعر ما قالته ستّي مدلّلة لأمين وهو يبكي عند مغادرة صفّورية ‏بعد سقوطها في قولها: "ابكِ يا ولدي كالأطفال وطننا لم تستطيعوا حمايته كالرّجال"(ص63)، ‏وفي ذلك استحضار لمقولة عائشة الحرّة لابنها الخليفة أبو عبدالله، آخر ملوك بني الأحمر في ‏غرناطة، فعند سقوطها غادرها، ثمّ وقف على بعدٍ ينظر إليها ويبكي فتقول له أمّه: "ابكِ مثل ‏النِّساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه كالرّجال" وما زال ذلك المكان يُسمّى إلى اليوم "زفرة العربيّ ‏الأخيرة". وغير ذلك من المتناصّات الّتي يقصد الكاتب إدراجها في روايته لما تعود بالفائدة على ‏الرّواية، أو  لتؤكّد ثقافة الكاتب وشغفه بالموروث الثّقافي العربيّ.‏
تعلّمنا الرّواية كثيرًا من الأمور الّتي يجهلها النّشء الصّغير من أبنائنا كالمواقع الأثريّة في ‏صفّورية؛ القلعة، دير القدّيسة حنّة، المسجد، وغيرها من الأماكن كالمغاور والمقابر وأسمائها، كما ‏تعرّفنا بالعائلات الّتي عاشت هناك مثل: حلومة، التوبة، عبد الهادي، العفيفي، الحدايدة وغيرها، ‏ويعمد الكاتب إلى شرح بعض المصطلحات في تضاعيف الرّواية عندما يشكّ بعدم معرفة القارئ ‏لها كحديثه عن القراميل والجهاديّة، يقول الرّاوي واصفًا ما قامت به ستّي مدلّلة: "وعلّقت القراميل ‏الّتي هي عبارة عن خيطان ملوّنة تتجدّل مع الشّعر، وفي طرف كلّ خيط توضع جهاديّة، وهي ‏ليرة ذهبيّة تتزيّن بها المرأة، وقراميل ستّي مدلّلة تحتوي على ستّ جهاديّات كانت تفاخر بهم ‏النّساء لأنّ والدها أهداها لها عندما تزوّجت"(ص179). تعنّ لنا ملاحظة في هذا المقام، فقد قال ‏الرّاوي عن الجهاديّات أنّها كانت تفاخر بهم والصّحيح تفاخر بها لأنّها جمع لغير العاقل. ‏
‏   هذه الملاحظة تنقلنا للحديث عن لغة الرّواية، وفيها يوظّف الكاتب لغة عربيّة فصيحة على ‏الغالب، لكنّه لا يستطيع التّحرّر من أثر العامّيّة المحكيّة عليه فنجده يصوغ لغته الفصيحة في ‏قوالب عامّيّة، ممّا يوقعه في الخطأ، أو ينأى به عن تحقيق الهدف والمعنى الّذي يريد، ومن ذلك ‏قول الرّاوي واصفًا ما تقوم به ستّي مدلّلة وهي تخبّئ أوراقها الّتي تثبت ملكيّتها للبيت: " وضعت ‏فيه (في الكيس) الأوراق بحرص شديد، إلى جانب مفتاح بيتهم الكبير ومفتاح الدّكان لفّتهم جميعًا ‏بقطعة قماش، وضعتهم في أسفل الكيس، بحثت عن مسمار مغروس في وسط الحائط فعلّقته" ‏‏(ص11). إنّ هذه القوالب اللّغويّة المحكيّة تؤكّد تأثّر الكاتب بها وعدم قدرته على التّحرّر منها، ‏مما يوقعه في أخطاء نحويّة كان يمكن تجنّبها.‏
في مدار حديثنا عن لغة الرّواية نضيف، غيرَ مصانعين  ولا متجنّين على الأخ الكاتب، أنّ ما ‏تحوي الرّواية من  أخطاء لغويّة على اختلافها يقصي الرّواية عن العمل الأدبيّ لافتقارها إلى ‏أبسط قواعد اللّغة، وهي كتابة الكلمات بصورة سليمة، فالقارئ لا يمكنه التّمييز  بين الخطّ ‏العمودي والهمزة، وذلك لغياب قطعة الهمزة عنها، وفي كثير من الحالات يشقّ على القارئ ‏المتمرّس قراءة الكلمة إلّا بعد جهدٍ كبير. وفي حالات أخرى لا نميّز بين الهاء آخر الكلمة والتّاء ‏المربوطة، الأمر الّذي يشوّه اللّغة، ونحار فيهما: أهي هاء أم تاء، أم ماذا؟! ناهيك بما تحوي ‏الرّواية من أخطاء إملائيّة ونحويّة كثيرة تدفع الإنسان إلى ترك الرّواية دون إتمام قراءتها، ومن ‏نماذج ذلك كتابة كلمة اسم الجلالة "الله" منتهية بتاء مربوطة، وهي متردّدة في الرّواية بوتيرة ‏عالية جدًّا، أو  قوله: كم تباهى منتهية بألف قائمة والصّحيح ألف مقصورة، "كلّ جارة تأتي وبيدها ‏شيئًا"(24)، "ستأخذ مجرى ثانٍ"(32)، يهدِّأ (48)، "قتلتم أبنائنا"54، "يبدأ زخ غيضها"(63) ‏‏(الصّحيح غيظها)، "أنا طفت المخيّم كلّه واطمأنيت على أهل بلدنا"(83)، أمّا الشّدّة فلا حضور ‏لها في الرّواية وكأنّها فضلة لا اعتبار لها، أو زينة تجمّل كلمات اللّغة!! ممّا يزيد في تشويه اللغة. ‏وفي هذا الموقف نتساءل: من هو المسؤول عن ذلك؟ أهو موظّف المطبعة، أم السّكرتيرة؟ أم ‏الحاسوب؟ أم الكاتب؟ يقيني أنّ المسؤول الأوّل والأخير هو الكاتب، صاحب العمل الّذي تسرّع ‏في نشره دون تنقيحه؟ لو نهج كلّ منّا هذا النّهج فكيف ستكون كتابتنا، وماذا سيصيب لغتنا؟ أرجو ‏أن تكون هذه الرّواية منبّها لنا جميعا لنبذل مزيدًا من العناية والاهتمام بإخراج أعمالنا الأدبيّة ‏بصورة أفضل.‏
من ملاحظات متعلّقة بعمليّة إخراج الرّواية ما يلحّ علينا، بحيث لا نتمكّن من ترك الحديث عن ‏الرّواية قبل التّنويه به، وهو صورة الغلاف، فلو تأمّلنا الصّورة المثبتة في الغلاف الأمامي، ‏لأحسسنا بالتّنافر البارز بين مضمون الرّواية وبين الغلاف وما يحوي؛ إذ تتحدّث الرّواية عن ‏نكبة، تشرّد، وضياع ونحو ذلك، ولكننا لا نرى هذه الأمور في الغلاف، بل نرى فلاّحة في ربيع ‏عمرها، على نقيض ستّي مدلّلة، تسرح في أمور فكريّة معيّنة وتحضن طفلها، ومفتاح بيتها في ‏يدها اليمنى، وإلى يسارها لفّة أغراضها، وإلى يمينها تبدو كنيسة ومسجد، فكيف يقتنع القارئ ‏اعتمادًا على صورة الغلاف أنّ الحديث يدور حول غربة، ولجوء وتشرّد؟!‏
‏   جاء مبنى الرّواية في عشرة فصول أو أبواب، خالية من العناوين، واكتفى الكاتب بالإشارة للرّقم ‏في مستهلّ كلّ فصل. أمّا السّؤال الّذي نطرحه بهذا الخصوص فهو: لماذا جعل الرّواية في عشرة ‏فصول، وهو يعلم أنّ العدد عشرة يدلّ على التّمام والكمال، فهل يشير بذلك إلى ضياع القضيّة ‏الفلسطينيّة وانقطاع الأمل بالعودة، مع استقرار معظم من نزحوا في البلاد الّتي استضافتهم، ‏وتوقّف محاولاتهم للعودة؟ أم أنّه يعني أنّ أحداث روايته انتهت ولمّا تنتهِ قضيّة الشّعب الفلسطينيّ ‏الّتي ما زالت تبحث لها عن حلّ؟ إنّ المتأمّل فيما يجري في الرّواية يتحقّق من أنّ الأمل بالعودة لم ‏ينقطع، وسيبقى الفلسطيني رافعًا لواء العودة حتّى يتمّ له الأمر، وما يشي بذلك تسليم ستّي مدلّلة ‏مفتاح البيت لحفيدتها فتحيّة، نعم فتحيّة، فعليها وعلى أمثالها ينعقد أمل العودة من جديد. نبارك ‏للأخ مصطفى هذا النّتاج، آملين أن يتّخذ رأينا في الرّواية رسالة حبّ، نصح،  وتوجيه؛ ليأتي ‏العمل القادم تامًّا لا غبار عليه، وإليك أهمس أخي مصطفى قائلًا: "أمر  مبكياتك لا أمر ‏مضحكاتك"، والله من وراء القصد.‏
كلمة السيد زاهر صالح  رئيس مجلس المحلي كوكب أبو الهيجا: حضرات الكتاب، الناقدين ‏والمفكّرين المحترمين مع حفظ الألقاب، أديبُنا المحلّيُّ الأخ مصطفى عبد الفتاح المحترم والحفل ‏الكريم، أرحّبُ بكم جميعًا أجملَ ترحيب، وأهلًا وسهلا بكم في هذه الندوة الثقافيّةِ حول رواية ‏‏"عودة ستي مدللة" للكاتب المحليّ الأخ مصطفى عبد الفتاح، وهي عملٌ ثقافيٌّ إبداعيٌّ، يُعالجُ أهمَّ ‏القضايا السياسيّةِ النفسيّةِ والاجتماعيّةِ التي رافقتْ وترافقُ اللاجئينَ الفلسطينيّينَ في الوطن، ‏والمنتظرين العودة إلى قراهم وهُم على مَرمى حجرٍ منها، وتحملُ الرواية في طيّاتِها صورةً رائعة ‏عن نضالِ المرأةِ الفلسطينيّةِ، ودوْر قوّتِها وإصرارِها وقدرتِها على الصبرِ والتصدّي والصمودِ، ‏في وجهِ أعتى آلاتِ الدمارِ لوطنٍ يسكنُ في القلب‎.‎
الإخوة والأخوات، نحن في وقتٍ تشهدُ فيهِ أمّتُنا العربيّة ومجتمعُنا وشعبُنا الفلسطينيُّ تحدّياتٍ غيرَ ‏مسبوقةٍ على جميع  الأصعدة، ممّا يُلقي على كاهلِ المُثقفين مسؤوليّاتٍ كبيرةً ومتشعّبة، في ‏المساعدة على فهم وتجاوُزِ هذه التحدّياتِ، ليس فقط بالاستجابةِ لهموم وطموحاتِ مجتمعاتِنا، بل ‏والانخراط في بناء الإنسان العربيّ الجديد، المؤمن بدوْرهِ في صناعةِ حضارةِ العصر، من دون أن ‏يتخلى عن هُويّتِهِ الأصليّةِ وخصوصيّتِهِ المُتفرّدة. من هذا المنطلق، فإنّ لقاءَنا اليومَ يُمثّلُ أحدَ أوجُهِ ‏رعايةِ وتشجيع الحركةِ الفكريّةِ والثقافيّة، فهو ليسَ فقط شكلًا مِن أشكال الوفاءِ والتقديرِ ‏للمتميّزين، ممّن يُضيفون جديدًا إلى روافدِ هذه الحركة، بل هو أيضًا ركنٌ أساسيٌّ في نهج تحفيزِ ‏الأجيال الصاعدة، على الانخراطِ في عمليّةِ التنميةِ بأبعادِها المختلفة‎.‎‏ هكذا نفهمُ دوْرَ الثقافةِ، لذلك ‏لم نبخلْ يومًا في دعم واحتضان كلِّ عملٍ ثقافيٍّ بنّاءٍ، ومن هنا ينبعُ التزامُنا بأنْ نكونَ دائمًا ساحةً ‏للقاءِ والتفاعلِ الحُرِّ بين المثقفين والمُبدعين‎.‎
ومِن مُنطلق إدراكِنا لمفهوم الثقافةِ بوصْفِها قاطرةً للتنميةِ، أخذنا على عاتقِنا مُهمّةَ تطوير المشاريع ‏الثقافيّةِ الموجودةِ على أرض الواقع، وعلى إقامةِ مشاريعَ إنشائيّةٍ تخدمُ البُنيةَ التحتيّة للشأن الثقافيّ، ‏وبالمناسبة، يسرُّني أنْ أعلمَكم عن بدء التخطيطِ لبناءِ مبنًى مُتعدّدِ الأهداف، يكونُ مصدرًا ‏للمعلوماتِ ومركزًا للفنون والمسرح، لنعملَ على إشاعةِ الثقافةِ والفنون، ونشرِها وتذوُّقِها في أكبر ‏شريحةٍ مُمكنةٍ مِن المجتمع‎.‎‏ وسوف نتابعُ ونواصلُ دوْرَنا الثقافيَّ والفنّيَّ والأدبيّ، مِن خلال برامج ‏ونشاطاتِ المجلس المحلّيِّ على مَدارِ العام، وعلى رأسِها احتضان المواهب المتميّزة، ودمْجها في ‏المسابقات القطريّةِ والعالميّةِ، لرفع اسم قريتِنا كوكب أبو الهيجا عاليًا في كافّةِ المجالات، فكوكب ‏هي كنزٌ للمواهب، وعلينا أن نخرِجَ طاقاتِ المتميّزين لترى النور، لأنّ التميُّزَ والإبداعَ يحتاجانِ ‏إلى الدعم والمُساندة، وهذا ما أخذناهُ على عاتقِنا ونفعلُه.‏‎ ‎إنّني أجدّدُ الترحيبَ بكم في بلدِكم ووسط ‏أهلكم، وأتمنّى لكم ندوةً ثقافيّة مُثمرةً والسلام عليكم.‏
مداخلة د. بطرس دلة: رواية ستي مدللة للكاتب مصطفى عبد الفتّاح هي رواية الحنين إلى ‏الوطن، الحنين إلى مسقطِ الرأس قرية صفورية المُهجّرة، كُتبتْ بأسلوبٍ عاطفيٍّ مِن كاتبٍ ما ‏زالتْ ذكرياتُ صفورية تعصفُ في مُخيّلتِهِ، حيث هُجّرَ وأهلُهُ مِن القريةِ التي هدّمَتها قوّاتُ جيش ‏الدفاع الإسرائيليّ، خلالَ حرب عام النكبة 1948. الرواية ليستْ مِن الحجم الكبير، فهي تصلحُ ‏لأنْ تكونَ قصّةً طويلة أكثرَ مِن كوْنِها رواية، فالرواية كما تُعرّفها كتبُ الأدب هي سرْدٌ نثريٌّ ‏طويلٌ، يصفُ شخصيّاتٍ وأحداثا على شكل قصّةٍ مُتسلسلةٍ، وهي أكبرُ الأجناسِ القصصيّةِ مِن ‏حيثُ حجمِها وتعدُّدِ شخصيّاتِها وتنوُّعِ أحداثها، وقد ظهرت الرواية كجنسٍ أدبيٍّ مميّزٍ ومُؤثّرٍ في ‏القرن الثامن عشر في أوروبا، وفيها وصفٌ وحوارٌ وصراعٌ بين الشخصيّاتِ، وتأزّمٌ وجدَلٌ ‏وأحداثٌ ترتكز على خمسةِ عناصر: الشخصيّات، الحبكة أو العقدة، الموضوع، الزمان والمكان، ‏وبعض العناصر الأخرى الإضافيّةِ والمُلحَقة‎.‎
‏*الشخصيّاتُ قد تكونُ ثلاثيّة الأبعاد، ولها مخاوفُ وآمالٌ ونقاطُ ضعفٍ وقوّةٍ وأهدافٌ يجبُ أن ‏تكونَ واضحة في الحياة! كما أنّها يجبُ أن تكون لديها مرونة وقدرة على التغيير عندما يعترضُها ‏أيّ تحدّ، وأن ترفضَ الخنوعَ، وتقاومَ كي تخرجَ مِن الأزماتِ عندَ الحاجة، وأن تجدَ لها حلفاءَ ‏يُساندونَها خاصّة في مقاومةِ الشرور، وقد تصلُ إلى درجةِ اليأس، لكنّها تعودُ للتغلّب على يأسِها، ‏لأنّ لديها قوّةَ إيمان قد لا تتوفّرُ لغيرِها‎. 
‏*أما العقدة أو الحبكة فيعرضُها الكاتبُ الروائيّ منذ بدءِ روايتِهِ، ومِن ثمّ يُحاولُ البحثَ عن حلولٍ ‏لها، بحيث تتحوّلُ الرواية إلى رسالةٍ أو درسٍ يكشفُ عنه الكاتبُ الستارَ، مِن خلال العقباتِ التي ‏تُثري الأحداثَ والنصوص، فالموضوع إذًا؛ هو أساسُ كلّ روايةٍ، وهو الغرضُ مِن كتابتِها، لأنّه ‏بدون الموضوع تكونُ الرواية تافهةً، ولا قيمة تُذكرُ لها‎.‎‏ هكذا تأتي الحبكة أو العقدة حدثا يُغيّرُ حياةَ ‏البطل، فيحاولُ منعَهُ مِن أجلِ حلِّ العقدة، وهكذا تتصاعدُ الأحداثُ والرغبة في التغلّبِ على الشرّ، ‏ولكنّ البطلَ يأخذ في البحثِ عن مفتاح أو أكثرَ ليَصلَ إلى الحلّ ولا يستسلمُ، وقد يتعرّضُ إلى أكثرَ ‏مِن هزيمةٍ خلالَ محاولاتِهِ، ومع ذلك، يجبُ أن تعاودَهُ العزيمة أكثرَ مِن مرّةٍ وبقوّةٍ، مِن أجل ‏مُواجهةِ الشرّ الذي يُقاومُه. بعدَ ذلك يصلُ البطلُ إلى الذروةِ، حيثُ يكتشفُ طبيعة العقدةِ أو ‏الصراع، وتنضجُ أمامَهُ جميعُ العلاقاتِ الخيّرةِ والشريرة، وقد يصعبُ عليهِ حلّ العقدة، إلّا أنّهُ ‏سيبحثُ عن المعلوماتِ التي تُعينُهُ في الوصول إلى الحلّ المطلوب، وقد يدخلُ البطلُ أحيانًا في ‏حوارٍ مع الآخرين حولَ أحداثِ الرواية، وهنا يلجأ الكاتبُ إلى اللغة التي تناسبُ شخصيّاتِ أبطالِهِ ‏ولهجاتِهم، ومن ذلك، أنّه قد يبتعدُ عن اللغةِ الفصيحةِ، فيُطعِّمُها بألفاظٍ عامّيّةٍ أو حتى غير عربيّةٍ ‏أحيانًا، وكلّ ذلك من أجل الوصول إلى الإجابةِ على الأسئلةِ التي طرحَها، عندما كان الصراعُ ‏يتأزّمُ خلالَ عمليّةِ السرد، في رواية عودة ستي مدللة، وجدنا شخصيّةً نموذجيّة لدى بطلةِ الرواية، ‏حيثُ التزمَ الكاتبُ بنوع خاصٍّ مِن الكتابةِ الروائيّة، ألا وهو الأدبُ الوثائقيّ، فهو يُعيدُ إلى الأذهان ‏أحداثا واقعيّة، مِن أجل دفع حركةِ السردِ إلى الأمام، كما لو كانَ صحفيًّا يُوثّقُ الأحداثَ، وهو فوقَ ‏ذلك، يُحاولُ إثباتَ الهُويّةِ الفلسطينيّةِ، فيبتعدُ عن جماليّةِ اللغةِ الفنّيّةِ إلى لغةِ هي الأقربُ إلى ‏البساطة، فيصبحُ النصُّ تحنيطًا للمشاعر وتطويبًا للأفكار بطريقةٍ تقريريّةٍ ومُباشرة. إنّه يبحث عن ‏طريقةٍ لتثبيتِ الأيديولوجيّ السياسيّ قبلَ الجماليّةِ الأدبيّة! هكذا يتغلّبُ عندَهُ المضمونُ على الشكل، ‏بحيث جاءتْ كتابتُهُ اجتماعيّة، تطرحُ القضايا الجوهريّة التي تهمُّ القارئَ العربيَّ وهمومَ الفردِ ‏والذاتِ الفلسطينيّة‎.‎
نحن نعي أنّه عندما نحاولُ نقلَ الواقع إلى الأدب، يجبُ أن يبقى النصُّ مُحافظا على شروطِهِ ‏الفنّيّة، وفي نفس الوقتِ لا ننكرُ، بل نتمسّكُ بحقّ وثوابتِ الشعبِ العربيّ الفلسطينيّ، لأنّنا جزءٌ لا ‏يتجزّأ مِن هذا الشعب، والمُجابهة والمواجهة معَ الغاصب المحتلِّ تمثّلُ واقعًا مريرًا منذ النكبةِ ‏وحتّى اليوم، لذلك، فإنّ معاناة الأنسانِ الفلسطينيّ ونضالَهُ قد ملأ صفحاتِ الرواياتِ المختلفة، ‏ومنها هذه الرواية التي نحن بصَددِها، ستي مدلّلة. هكذا وجدنا أنّ الرواية العربيّة الفلسطينيّة قد ‏أبرزتْ حتى الآن النقاط التالية، وهذا ينطبقُ على رواية عودة ستي مدللة وهي:‏
‏1* تطويرُ السّماتِ الإيجابيّةِ والمواقفِ الثوريّةِ ضدَّ الإرهابِ اليهوديِّ وقتلِ الهُويّةِ الفلسطينيّة‎.‎
‏2* تأكيدُ الهُويّةِ الفلسطينيّةِ والانتماءُ القوميُّ والنضالُ الوطنيُّ، مِن أجلِ إحقاقِ الحقّ‎.‎
‏3* تطويرُ المواقفِ الواعيةِ وإسقاطُ النّكراتِ التافهين‎.‎
‏4* التأثرُ باللغةِ العبريّة‎.‎
‏5* اللجوءُ إلى التراثِ فنّيًّا وأيجابًا وتوظيفُهُ، بحيث تمتزجُ خصوصيّةُ الشخوصِ مع عراقةِ ‏التراث‎.‎
أبطالُ ستي مدللة مأخوذونَ مِن واقع الحياةِ، ومِن طبقةِ المسحوقينَ المحرومين مِن حقّ الحياة. هنا ‏تلعبُ المرأة دوْرَ البطلِ الرئيسيّ في هذه الرواية، وهي بطلة ذاتُ شخصيّةٍ مُدوّرةٍ يُعطيها الكاتبُ ‏صفاتٍ ثابتة، وتظلُّ على مواقفِها مع تغيُّرِ الزمانِ والمكان، فالزمكانيّة ليس لها فِعلٌ في نفس هذه ‏البطلةِ الحيّةِ ستي مدللة إلّا قليلا، وتظلّ ترنو إلى قريتِها مسقط رأسِها، حتى بعدَ هدمِها ومماتِها. ‏ومع أنّ الكاتبَ قد سخّرَ العديدَ مِن الشخصيّاتِ في هذه الرواية، إلّا أنّ البطلة المرأة تظلُّ تلعبُ ‏دوْرَ البطولةِ الرئيسيَّ في حياةِ هذه الرواية‎. 
ما يُلفتُ الانتباهَ لدى قراءة هذه الرواية، أنّ المؤلّفَ تَعاملَ مع الأحداثِ والهجيج والترحيلِ عن ‏الوطن، كما لو كانتْ تحدثُ اليوم، ولذلك وجدنا البطلة اليائسة على الرغم من عنفوانِها وعزمِها ‏البطوليّ، والمؤلفُ كثيرُ العطفِ على أبطالِهِ، ويأخذنا معهُ إلى العطفِ عليهم، ويَعزو فشلَ النضال ‏الوطنيّ الفلسطينيّ إلى فشلِ وضعفِ وخيانةِ الأنظمةِ العربيّةِ والجيوش العربيّة، خاصّة جيش ‏الإنقاذ الذي أقامَتْهُ جامعة الدول العربيّة، بقيادةِ فوزي القاوقجي مِن أجل تحرير فلسطين. فاذًا؛ هو ‏خائنٌ لفلسطين وبعيدٌ كلّ البعدِ عن العمل الوطنيّ الحقيقيّ، لا بل يمنعُ الفلسطينيّين مِن النضالِ ‏والمقاومةِ والدفاع عن أراضيهم وقراهم وحقوقِهم، ويبيعُ الوطنَ مِن خلف ظهورهم‎.‎
وجدتُ في هذه الروايةِ كاتبًا يعيشُ أجواءَ القريةِ الفلسطينيّة، فيصفُ زوايا البيتِ الفلسطينيِّ ‏وساحاتِ البيوتِ، ومعيشةِ الدواب داخلَ وبجانب الأهالي، وهي صورةٌ حقيقيّة لِما كان لدى أهلِنا ‏منذ عام النكبة، وقد فقد أبطالُها أملَهم في تحقيق العودة، وإعادةِ إعمار القرية وتحقيق الثوابتِ ‏الفلسطينيّة، والتي أوّلُها حقُّ العودة وإقامةِ الدولةِ الفلسطينيّةِ وعاصمتها القدس الشريف، والحقيقة ‏الأخرى هي، أنّ الكاتبَ أسبغَ على بطلتِهِ ستّي مدللة الكثيرَ مِن الصفاتِ الإيجابيّة، بحيث جعلها ‏نموذجًا حيّا لكلّ الجدّاتِ الفلسطينيّات اللواتي لا يخشيْنَ الموتَ في سبيل الوطن، وإذا كان عنوانُ ‏الرواية "عودة ستي مدللة"، فإنّ عودة بطلتِهِ هذه ليست كاملة! صحيح أنّها عادتْ من لبنان إلى ‏فلسطين، إلّا أنّها لم تعُدْ إلى صفورية، وهي الهدف الأساسيّ لدى هذه البطلة، ولدى كل فلسطيني ‏مؤمن بحقه في الحياة. وهذه هي الحقيقة المُرّة‎!‎‏ لقد تأثرت كثيرًا مِن أحداث روايتك، حيث مرّت ‏في مخيلتي بعض أحداث عام النكبة، عندما كنّا على وشك ترك كفرياسيف والهرب إلى لبنان، ‏واستعدت في مخيلتي ما حصل معنا، ودوْر رئيس مجلس كفرياسيف المحلي آنذاك المرحوم يني ‏قسطندي يني الذي منع السكان من الهجيج وحافظ على كفرياسيف كما هي كذلك وعي الأهالي ‏الذين ساندوا موقفه في حينه، ولكننا رأينا أسرابَ الهاربين من القرى المجاورة، خوفا من المجازر ‏التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قبية وعيلبون ودير ياسين وغيره‎.‎‏ ما قلته حتى الآن لا يقلل من ‏أهمّيّة الرواية، بل على العكس، أعتقد أن شبابنا في كوكب أبو الهيجا والناصرة وكفرياسيف ‏وغيرها بحاجة ماسّة إلى قراءة هذه الرواية، لأنّها تعلمهم أهمّيّة التمسّك بالوطن وبروح النضال ‏الحقيقيّ من أجل إحقاق الحقّ، فحتى ذلك الحين لك الحياة أيّها الصديق‎!‎
العريف عفيف شليوط: الكاتبُ المُحتفى به مصطفى عبد الفتاح عشقَ الأدبَ وعملَهُ في إدارة ‏المكتبة العامّة في قريتِهِ وأخلصَ له، ممّا دفعَ وزارة الثقافة إلى منحِهِ جائزة تقديريّة عام 2011، ‏تُمنحُ مرّة كلّ سنتين لأفضل مدير مكتبة من قِبل وزارة الثقافة والرياضة قسم المكتبات، وتقديرًا ‏لعملهِ الدؤوب، وعطائهِ المستمرّ في بناء المكتبة العامّة، وترسيخ أهدافها ورسالتها بين الأهالي، ‏فقام خلال عمله على مدار عشرين عامًا بتأسيس المكتبة وتطويرها، وأدخل عليها كلّ جديد في ‏عالم الكتب والمعلوماتيّة، حتى أصبحت من أجمل المكتبات وأنجحها وأكثرها نشاطا في الوسط ‏العربيّ. بالإضافةِ إلى عمله في المكتبة العامة، فقد نشط في داخل مجتمعه في الأعمال التطوعيّة ‏والثقافيّة، ووقفَ دائمًا إلى جانب تطلعات شعبه بكلّ أمانة وإخلاص، كما قام بكتابة العشرات من ‏المقالات الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة، ونشرها في الصحف وصفحات الشبكة العنكبوتيّة، وقام ‏بتأليف وإصدار كتابيْن هامّيْن، الأوّل عن الزجل والتراث الشعبي تحت عنوان مهرجان الزجل ‏القطريّ الأوّل،  والثاني عن تاريخ كوكب في العصر الحديث، تطرّق فيه إلى الدور الرياديّ ‏والمسؤول لجبهة كوكب في تطوير وبناء القرية العصريّة، تحت عنوان "جبهة كوكب ‏الديمقراطيّة تاريخ وعراقة". كما أسهم إسهامًا كبيرًا في إعداد وتحضير وكتابة موادّ كتاب "كوكب ‏أبو الهيجاء جذرها في الأرض وفرعها في السماء"‏‎ .‎‏ ‏
يقول عبد الفتاح عن الجائزة إنّها ذات قيمة معنويّة عالية بالنسبة لي، وهي رسالة شكر وعرفان لي ‏من قِبل المسؤولين عن العمل، والدور الذي قمت به خلال عملي المتواصل في المكتبة العامّة، ‏وأنا بدوْري أعتبر أنّ الجائزة هي هدية جميلة، أقدّمها بدوْري لكلّ أبناء شعبي  ولجميع أهالي ‏قريتي كوكب، وهي رسالة شكر وامتنان لكل من ساهم وساعد وقدّم في العمل، وفي مقدّمتهم أفراد ‏أسرتي، زوجتي المعلمة الرائعة التي قدّمت كلّ طاقاتها في تربية الأجيال وما زالت، وأبنائي ‏جميعا الذين لم يخذلوني أبدا في تعليمهم الجامعيّ، كي يخدموا شعبَهم ومجتمعَهم، ويقدّموا له ما لم ‏أستطعه أنا، ويكونوا قدوة ومثالًا لمجتمع راق ومتعلم ومعطاء، وإلى كلّ القرّاء وروّاد المكتبة ‏الذين أحبّوا المكتبة ودعموها، واعتبروا المكتبة بيتهم الدافئ، وملاذهم في ساعات الفراغ، ‏وصديقهم في ساعات الوحدة والتأمل في كنوز ومكنونات البشريّة من العلم والمعرفة‎ .‎
كوكب أبو الهيجاء قرية مميّزة بموقعها وسكّانها، بتاريخها وهوائها، وهذا انعكسَ إيجابًا على ‏أخلاق ومزاج سكّانها، فيتميّزون بهدوئهم وطول بالهم، بمزاجهم الهادئ، وخلال عملي في ‏مكتبتِها العامّة، تعرّفت على أهلها الطيّبين المحافظين على هُويّتهم وانتمائهم، والمنفتحين على ‏الآخرين، ويُكرمون الضيف والزائر، فيشعر من يدخل هذه القرية بالراحة والطمأنينة، فتعمل بكلّ ‏طاقتك كي لا تفقد تلك العلاقة المميزة معهم، ذلك الكنز الذي لا يُقدّر بثمن. فشكرًا لكم على حسن ‏استقبالكم ومحبّتكم، شكرًا لكم على سماحتكم لأنكم قدّمتم لنا الكاتبَ المُبدع مصطفى عبد الفتاح، ‏لينضمّ إلى قافلة الأدباء والشعراء الفلسطينيين الذين ساهموا ويساهمون في دعم مسيرة أدبنا ‏الفلسطينيّ في هذه الديار. ‏
‏ مداخلة الكاتب مصطفى عبد الفتاح: الإخوة والأخوات السيدات والسادة الأفاضل، أحيّيكم أجمل ‏تحية، وأشكر حضورَكم اللافت في هذه الأمسية الأدبيّةِ الاحتفاليّة فردًا فردًا، فحضورُكم يَزيدني ‏فخرًا واعتزازا بكم، وهو وسامُ شرفٍ لكوكب وأهلها. اسمحوا لي أوّلًا أن أشكرَ كلّ مَن بادر ‏ورعى ودعا لهذه الأمسيةِ الجميلة، رئيس المجلس المحلي السيد زاهر صالح، وهل أروع مِن أن ‏يعطي رئيس المجلس المحليّ اهتمامَهُ للعلم والأدب والثقافة والتراث، وشعارُهُ بناءُ الإنسان قبلَ ‏بناء المكان، هذا هو طريقُ أيّ شعب نحو العُلا، كما وأشكرُ مديرَ قسم المعارف في المجلس السيد ‏مصطفى خليل، على جُهدِهِ المتواصل من أجل إخراج هذه الأمسية إلى حيّز التنفيذ، وأشكرُ مديرَ ‏المدرسة الشاملة الأستاذ يوسف منصور على استضافته لنا في هذا الصرح العلميّ الجميل ‏والجديد. الشكرُ والامتنانُ لاتّحاد الكرمل للكتاب والأدباءِ الفلسطينيّين، وأخصّ الأستاذ الشاعر على ‏هيبي الذي رافقني في تصحيح الرواية في مراحل إصدارها الأخيرة، وأشكرُ مكتبة كلّ شيء ‏بإدارة الأستاذ الرائع صالح عباسي، على جهوده المباركةِ في نشر الرواية وإيصالها إلى العالم ‏العربيّ، فهو سفيرُنا الثقافيّ في العالم العربيّ، وأشكر الفنان ابن قريتنا الأخ فوزي حاج، الذي رسم ‏لوحة الغلاف المعبّرة، وأشكر د. عدنان أبو الهيجاء الذي نقش انطباعاتِهِ كمهنيّ على صفحةِ ‏الغلاف، وأشكرُ شاعرَنا الأستاذ أحمد طه على كلمتِهِ الرقيقة المُعبّرة، وبكلّ فخرٍ واعتزازٍ أشكرُ ‏ابنَ صفورية الذي أضاف اسمَ قريتهِ إلى اسم عائلته، فأصبحتْ عائلتُهُ قريتَهُ وقريتُهُ عائلتَهُ، الناقد ‏والباحث د. محمّد صفوري، الذي تفضّل مشكورًا في نقدِ وتحليل الرواية بشكلٍ مهنيّ، وشكر ‏خاصّ لأستاذي ومعلمي الناقد د. بطرس دلّه، الذي علّمني أبجديّة حبّ الوطن والأرض والإنسان، ‏علّمني التاريخ كما أحبّ أن نعرفه رغم أنف السلطة. فدرست التاريخ وأحببت الوطن. وتحيّة ‏لعريف الحفل الكاتب والمسرحيّ الأستاذ عفيف شليوط، الذي أكِنُّ له كلّ التقدير والمحبّة، وتحيّة ‏أخرى للكاتبة والأديبة أسمهان خلايلة التي كتبت انطباعاتِها عن الرواية.‏
أشكرُ كلّ مَن فاتني ذكرُ اسمِهِ، وأشكرُ جميعَكم وكلّ مَن ساهمَ وعملَ لإخراج هذه الأمسيةِ إلى ‏النور، فحضورُكم شرفٌ كبيرٌ لي. كم جميلٌ أن تقامَ هذه الندوة في آذار، آذار الثقافةِ والفكر، آذار ‏يوم المرأة العالميّ، والرواية بطلتُها امرأةٌ مناضلة شجاعة، شقت طريقَ عودتِها في الواقع وفي ‏الخيال، وهنا أودُّ أن أذكرَ، أنّها قليلة هي الرواياتُ التي خُصّتْ وأعطتِ المرأةَ الفلسطينيّة حقّها، ‏في إبرازِ دوْرِها النضاليّ الذي لا يقلُّ عن دوْرِ الرجُلِ في النضالِ والتّحمُّلِ والصّمودِ في هذا ‏الوطن، فكلُّ آذار والمرأة بألف بخير، وآذار الأرض والتاريخ والتراث والثقافة والأدب، آذار الخير ‏والمَحبّة والعطاء، فكلّ اذار وأنتم بألف خير.‏
أيّها الإخوةُ والأخوات في الحفلِ الكريم: النقدُ هو مرآةُ الأدب وبوصلةُ الأديب، أيًّا كان موقفُ النقّادِ ‏مِن نصوصِهِ، على الناقد أن يُسلّط الأضواءَ على النصوص الأدبيّة بالتحليل والتأويل، سيكون ‏نقدهم هو بوصلتي في كتاباتي القادمة، السلبي منها والايجابي، فالنقد لا يعني أبدًا أن نبرز ‏السلبيّات فقط في الأعمال الأدبيّة، وإنّما وبالأساس هو استعراض مدروس لخفايا وخبايا النصوص ‏الجميلة، والإيحاءات العميقة في العمل الأدبيّ. عندما يسطر التاريخ أصعب لحظاته وأقساها، فإنّه ‏يكتب نفسه بالخط العريض وبعناوين كبيرة، تاركا خلفه كلّ التفاصيل الصغيرة ليهتمّ بالكبيرة, ‏وتبقى تفاصيله الصغيرة في عداد الغيب أو التغييب، وكأنّه لا وقت لكتابتها، وربّما تأبى الذاكرة ‏أن تسرد تاريخ الأشياء الصغيرة في حجمها عميقة الأثر في النفس البشريّة، حتى تكتشف أنّ هذه ‏الأشياء الصغيرة المهمَلة هي أجزاء الوطن المتناثر في كلّ مكان، والتاريخ الحقيقيّ الذي يأبى ‏النسيان، والذاكرة الأصيلة التي تتبوّأ عرش المكان، ومع الأيّام تمحى كلّ الصور الكبيرة، لأنّها ‏تحاول أن تصبح مألوفة وتبقى في الذاكرة أحداث لم يخطها إنسان، فأنت تكتب روايتك من الهمّ ‏الفلسطينيّ وقلب المعاناة، من الجرح النازف عبر الأيّام والسنين، الجرح الذي يعيش فينا ولا يقبل ‏أن يندمل، ولا نريده أن يندمل، بل نريده أن يشفى تماما كما نريد.‏
أن تكون مُهجّرًا من أرضك ووطنك، فهذا ظلم لا يمكن احتماله، وأن تكون حاضرًا غائبًا ومُشرّدًا ‏في وطنك وعلى مرمى حجر من بيتك وقريتك وأرضك، فهذا الكارثة بعينها والألم الحقيقيّ والنكبة ‏بكلّ أبعادها. لم أكتب روايتي عن أحداث النكبة والتهجير والممارسات الإجراميّة اللّا إنسانيّة، ‏بقدر ما كتبت عن الإنسان الفلسطينيّ المقتلَع من بيته، المُهجّر المنكوب في أرضه ووطنه، وعن ‏أحاسيسه والصّراع في نفسه، عن المرارة والألم والظلم والقساوة في التعامل من القريب قبل ‏الغريب، وعن عُمق المشاعر والأحاسيس التي يعيشها اللاجئ، لا يعرفها إلّا اللاجئ، فكان لي ‏شرف ان أعيش مع رفيقة دربي وملهمتي التي وفرت لي كلّ الظروف لكتابة هذا النصّ الأدبيّ، ‏والذي رافقتني فكرته لسنوات طويلة حتى أخرجته إلى الحياة، لعله يخفف من الآلام ويستطيع أن ‏يضع الإصبع على الجرح، وربّما ليزيل غبار الغربة عن جرح لا يندمل.‏
بدأت رحلتي مع الرواية منذ سنوات طويلة لا أذكر عددها، وبالتحديد عندما أعلمتي زوجتي أنه ‏كان لها جدة جميلة، رفضت فكرة التهجير وأن تكون مُهجّرة في وطنها، وغضبت من كلّ مَن ‏اختصر اسمَها باسم قريتها ليُميّزها، وليُشعرَها أنّها غريبة، وبقدر حبّها واعتزازها بقريتها ‏وأرضها، هذه الجدة عاشت الغربة والتهجير في الوطن بكلّ دقائقه وتفاصيله، ولكنها لم تتكلم أبدًا ‏عن عُمق معاناتها، فكان كبرياؤها وعزة نفسها ورغبتها الجامحة في استمرار الحياة بشكل طبيعيّ ‏يَمنعانها أن تبدي ألمها، فحملت قصّتها في قلبها إلى أن فقدت ذاكرتها بحُكم السن، ولم يبقَ من ‏الذاكرة إلّا تلك التفاصيل الصغيرة التي نسيها التاريخ وكتبتها الرواية، وعودتها الحقيقيّة المتخيّلة ‏إلى الوطن. إنّها رواية ستي مدللة أيّها الأفاضل، هي جدّتنا جميعا، هي أمّي وأمّك، هي أختي ‏واختك. هي روايتنا جميعا، رواية شعب يأبى النسيان. ‏
 






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد