تقسيم المُقسم

mainThumb

16-05-2016 10:04 PM

نحو خمسة أعوام ونيف من انطلاقة الربيع العربي والتي تحولت من إشكالية بين الحاكم ‏والمحكوم إلى إشكالية أقلمة المنطقة وتداخلها مع قضايا الإرهاب وكلها مسوغات لإغراق ‏هذه البلدان بالصراعات المستدامة يأتي هذا متزامنا مع ذكرى مرور مئة سنة بالكمال ‏والتمام لما عُرف باتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916، والتي كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين ‏فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال ‏الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة ‏العثمانية المسيطرة على هذه المنطقة  في الحرب العالمية الأولى.
 
ولقد تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، مما ‏أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.‏
بين عام 1916 وعام 2016 حقبة عربية حافلة بالأحداث ، وإختيار هذا المسافة الزمنية ‏قرن مابين الفترتين لها دلالاتها وأبعادها ، فقد شهدت المنطقة العربية منذ قرن مضى ‏سلسلة من الهزات العنيفة أستهلت بدايات القرن الماضي باستنساخ أزمات أوروبا للمنطقة ‏العربية منذ الحرب العالمية الأولى والمتزامن بأفول نجم الخلافة العثمانية وتكريس (سايس ‏بيكو) .‏
 
‏ ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب ‏الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي ‏بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ، وتزامن ذلك ببدء استقلال  بعض الأقطار ‏العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة ‏الجمهورية فجأة ، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ بمضمون المعنى ‏وجوهره، حينها لم يكن لأصحاب التغيير تحت راية الشرعية الثورة العرب مشروعاً ‏واضحاً ورؤية بعيدة المدى لما ستؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور ‏الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية ‏واجتماعية لا مجال هنا لسردها.‏
الإشكال فيما يعيشه العرب اليوم يتمحور في شقين على مستوى قطري او في النظام ‏الإقليمي العربي ويتلخص في متاهة الهوية وغياب مشروع حضاري تجمع عليه الأمة في ‏كلا الحالتين ، فأوجه ذلك يتجلى في عدم استيعاب العرب لجملة من المفاهيم التي تركها ‏فراغ الخلافة العثمانية كالقومية وتداخلها مع الشعوبية ، ودور الدين في السياسة ، وكذا ‏الحرية والتي تجسدت في عدم استيعاب النُخب العربية لقيم الديمقراطية  وتبين ذلك في ‏تفاصيل الدساتير التي هي الأخرى شملت خلاصة لتجارب الأمم المتحضرة في الغرب  ‏ولكنه كان مجرد استنساخ وتقليد في قشور الحضارة فقط لإسكات معارضات الداخل ‏وإرضاء الخارج ، وغدت في جمهوريات العسكر العربية مجرد قيم افتراضية ليس إلا !‏
 
لقد كان المجتمع العربي أبان الاحتلال العثماني أكثر تقبلاً للتحول الذي تفرضه طبيعة ‏التحولات على غرار مسيرة أنظمة الغرب وتحرره من الكنسية المتزامن مع عصور ‏النهضة ، بينما في الحالة العربية كان لصدمة الحضارة تبعات مروعة تزامن مع تأمر ‏غربي فجّ وتقاسمه للمنطقة العربية وخلق بؤر مزمنة بحدود دولية غدت امراً واقعا بعد ‏اقتسام تركة (الرجل المريض) الدولة العثمانية التي أفل نجمها في الربع الأول للقرن ‏الماضي.‏
 
لم تكن الحرب العالمية الأولى قد أنهت التناقضات والأزمات داخل القارة العجوز فخرجت ‏ألمانيا بركان حقد يغلي لهزيمتها في تلك الحرب وصل هتلر للسلطة بطريقة انتخابات ‏ديمقراطية بشخصيته الكرازمية عندما التفت حوله الأمة الألمانية للثأر من كرامتها فعزف ‏على وتر عنصري وهو ما تتمحور حوله الفكرة النازية ولكن العداء لهذا التيار الجارف من ‏ألمانيا قابلة تحالف الخصوم المد الشيوعي والرأسمالي فتم وأد طموحاته بالانتصار الساحق ‏عليه على النحو المفصل في التاريخ الأوربي الحديث ، فالحرب الثانية قد أفزرت هي ‏الأخرى غرس كيان سياسي في خاصرة الأمة العربية والإسلامية ، ومن يومها تكالبت ‏الأمم على هذه العرب كما تتكالب الأكلة على قصعتها . فتوالت المصائب والمحن بهزائم ‏عربية متوالية حروب ونكسات 56 و67 مرور بحرب تحريك وليس تحرير أكتوبر من ‏العام 1973 والتي تكمن نتائجها في انقسام الأمة العربية بين خندقين الأول ماعُرف ‏بالتسوية والاعتراف بهذا الكيان كأمر واقع وبالتالي إقامة علاقات دبلوماسية مفروضة ‏حسب تلك الاتفاقيات وبين خندق آخر يدعي انه ضمن دول الممانعة وهذه الأخرى التي في ‏اغلبها تحكمها جمهوريات العسكر العربية توارت تلك الأنظمة تحت ضربات رياح ‏محاولات التغيير والانتفاض على تلك ألأنظمة الاستبداد فيما عرف بالربيع العربي .‏
 
أرى بأن مأسي المجتمعات العربية المتلاحقة ولاسيما في جزئية العلاقة بين الحاكم ‏والمحكوم والعلاقة بين الشعب نفسه لا تعزى فقط في الجانب التعليمي فحسب بل وفي ‏مجموعة قيم وأخلاق وتربية وسلوك حضاري فالتعليم وحدة مهما بلغ لايكفي لكبح جِماح ‏سلوك وتهور الإنسان ومهما تمدن ، والنُخب السياسية والمثقفة في اليمن تتحمل المسئولية ‏الأولى في معاناة الشعب وليس عامة الشعب وفي هذا السياق يرى أديب اليمن الكبير ‏الدكتورعبدالعزيز المقالح في مقالة نشرها مؤخراً : «.. بأن التحصيل العلمي والثقافي مهما ‏علا وارتقى لا يصنع الإنسان السوي ، فأوربا في النصف الأول من القرن العشرين وصل ‏المستوى الثقافي والتعليمي بين سكانها درجة عالية متقدمة مقارنة بالعصور الوسطى حيث ‏يقدم لنا التاريخ القريب للقارة العجوز نماذج لا حدود لها لبشر تحقق لهم من التعليم الراقي ‏والثقافة العالية ما يجلهم قدوة في هذا المجال ، لكنهم كانوا وراء الحروب الأبشع في تاريخ ‏البشرية وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان دارتا في القارة الأوروبية بين ‏الجيران وأتباع الديانة المسحية التي تدعو الى الرحمة والسلام نموذجا للتوحش والدعوة ‏للإبادة وإذا صحت الأرقام فأن أوروبا خسرت من أبنائها في الحربين ستين مليونا ، فإنها ‏تمثل قمة الوحشية ، ويضيف الدكتور المقالح بأن القضية إذا ليست قضية بيئة حاضنة ‏للمعرفة والثقافة والتمدن بل قضية تكوين نفسي تجذّرت فيه الوحشية وتأصلت ولم يكن ‏للدين في الحروب المعاصرة ولا الانتهاكات ، او عاملا فاعلا بقدر ما كان الشر الكامن في ‏تلك النفوس هو الدافع والمؤثر ، وما يحدث اليوم في وطننا العربي وفي العالم الإسلامي لا ‏يختلِف كثيرا عن ذلك الذي شهدنه أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين . صراعاً ‏سياسيا وبحثاً دؤباً عن الغلبة والاستئثار والإحساس بالنصر لدى المنتصر الذي قد يكون ‏مهزوما من داخلة ! ومنكسرا بدرجة لاتقل عن إحساس خصمه المهزوم . ولكن تبلد ‏الإحساس ونشوة التوحش أللإنساني تجعل من الصعب التفكير بالقيم والانصياع لسماع ‏صوت العقل.. »‏
 
‏* كاتب ودبلوماسي يمني


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد