قلق الأمهات - ريم قيس كبّة

mainThumb

25-05-2016 09:33 AM

هكذا خبرتُ القلق مع أوّل إحساسي بالأمومة حين ولدت ابنتي البكر وأنا بعدُ في أوائل العشرين من عمري.. فأخذتْ مني أول ما أخذت هدأة النوم.
 
 
نبقى قلقين بدرجات حتى نصبح أمهات.. وحينئذ يرتفع مؤشر القلق ليصل إلى أعلى درجاته بمقياس رختر للتوجس!.. يبدأ الأمر منذ اللحظة الأولى التي يولد فيها الطفل.. ثم يكبر ويتنامى إحساس الأمومة يوما بعد يوم.. ليكبر معه القلق فيَصل إلى حجم غول قد يأكل الأخضر واليابس من أفكار الأمهات في كل ما يتعلّق بفلذة الكبد..
 
 
“أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض”.. فهل للأمّهات أن يتركن أكبادهن تمشي على الأرض بعيدا عن أعينهن دون قلق؟.. بل قد يودي القلق بالأم بينما فلذة كبدها أمام عينيها وبين يديها..
 
 
 
هكذا خبرتُ القلق مع أوّل إحساسي بالأمومة حين ولدت ابنتي البكر وأنا بعدُ في أوائل العشرين من عمري.. فأخذتْ مني أول ما أخذت هدأة النوم.. كانت ساعات ليلي تنقسم إلى فواصل ومناورات بين النوم والصحو.. خبرتُ معها معنى الخوف بل الرعب على مخلوقة غضّة لا حول لها ولا قوة.. كان عليّ أن أفهم دوما إشارات بكائها من انزعاج أو جوع أو مرض.. وكان واجبي كأمّ يحتّم عليّ أن ألغي حياتي برمتها لأتفرغ للعناية بها.. وأن أمنحها الوقت والجهد وراحة البال بعد أن منحتها فرصة أن تأتي إلى هذا العالم.. بسببي!..
 
 
 
كانت أقصى أمنياتي في تلك الأيام أن تكبر هذه المخلوقة حتى تستطيع النوم دون أن تتعبني.. أو أن تتكلم فتعبّر لي عمّا بها دون أن تقلقني وأنا أضرب أخماسا بأسداس، محاولة أن أستنتج ما يجعلها تبكي بحرقة.. وبلا سبب أحيانا!..
 
 
 
وكم سمعتُ وكم قرأتُ وكم رُوي لي.. لكن واقع الأمر لم يكن ليشبه أي حديث.. وبقيت أرنو إلى ذلك اليوم الذي ستكبر فيه ابنتي لتعتمد على نفسها في كل شيء ولا تعود بحاجة إليّ.. فتعفيني من قلقي وخوفي عليها.. ولم أكن أعلم أنها كلما كبرت كلما اتخذ القلق شكلا آخر وأسفر الرعب عن المزيد!..
 
 
 
وإذ نمَتْ وكبرَتْ تلك اللحمة الحمراء وأصبحت “بنـّوتة” جميلة بعمر المدرسة.. تتقافز أمامي تتبعها ضفيرتاها وحقيبتها الصغيرة.. كانت فرحتي بها مشوبة برعب لا يمكن وصفه حين تلوح لي وهي تغادر البيت إلى مدرستها وأنا غير واثقة هل ستعيدها الحرب لي أم لا!.. فلم يكن غريبا أن يجعلني ذلك الخوف أترك العراق إلى غير رجعة.. فأضحّي بكل شيء في مقابل إحساسي بالأمان صوب طفلتي وأخيها الصغير من بعدها.. حيث كبرا أمامي في بلاد غير بلادي.. ولم يعد خوفي عليهما مرتبطا بالحرب.. بل لقد بدأتُ أخبر مخاوف جديدة وهواجس من نوع جديد..
 
 
 
ربما لم يكن ذلك الخوف الجديد يوازي إحساسي وأنا على الحد الفاصل بين الموت والحياة.. لكنه أيضا لم يكن بالقلق الذي يستهان به.. قلق مازلت أراه حتى هذه اللحظة في نظرات أمي حفظها الله التي لم تتخلص بعد كل تلك السنين من خوفها وقلقها علينا.. نحن أبناءها الذين أصبحنا أمهات وآباء.. فقلق الأمهات قدر يعيش ويموت معهن..
 
 
 
ويبقى لسان حال كل أم صوب أبنائها مهما كبروا وشاخوا يردّد قولَ أمير الشعراء أحمد شوقي “لم تزلْ ليلى بعيني طفلة.. لم تزدْ عن أمسِ إلا إصبعا”..
 
 
 
صباحكم أمان وراحة بال..
 
 
صحيفة "العرب"


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد