يا لهذا البحر - الصادق الزريقي

mainThumb

28-05-2016 10:49 AM

«أ» من نافذة الطائرة كان موج البحر بزرقته الصافية وعلى امتدادات البصر، يشبه لون الحياة والأحلام المتلاطمة في الخواطر بلا انتهاء، صفحة الماء منبسطة زرقاء وعمق البحر وأغواره وانعكاسات شمس الضحى كأنها تنادي من سحيق الزمن ملايين المشاهد والصور والأحداث والتواريخ التي تهمي كما قطرات السحاب وزخات المطر، ولماذا لا يشبه هذا البحر غيره من البحار ..؟ هل لانه اختزن التاريخ البشري كما لم يختزن غيره ..؟ أم لأنه شاهد لا ينام ولا يغمض عينيه، ما في جوفه وعلى وجهه وعلى شواطئه وكل ذرة منه، عاشت الأزمنة بكل دوراتها والعصور بكل تطوراتها والدهور بكل تفاصيلها وأوقاتها، عبرته الجيوش الجرارة علي أساطيلها مذ عرف الإنسان ركوب البحر، مر فوق وجهه الأزرق آلاف الغزاة والفاتحين، ودارت في صخب موجه آلاف المعارك البحرية، ودوت في سمائه حروب لا تنتهي أو حرب غيرت مسار الزمن والتاريخ.. وخلدته القصص والروايات والأشعار والاهازيج والمرويات الإنسانية وهي تكب على ظهور بعضها، وتضع حوافرها على حوافر إخواتها .. ورغم ان النقش على الماء ضرب من المستحيل إلا أن التواريخ المضيئة والمظلمة نقشت على مائه رسومها وأسماءها ووقائعها، وصبغت لونه بالدم والانتصارات والهزائم والفتوحات والبكاء والعويل وصراخ المهزومين وصياح الفاتحين وأنين الأسرى ودموع الرقيق والعبيد وخمور المنتصرين والتجار والعابثين.
 
 
 
 
«ب» هكذا بدا البحر الأبيض المتوسط او «بحر الروم وبحر الشام» كما في الثقافة العربية القديمة، من تحت نافذة الطائرة في ذلك النهار، ككائن حي ينام قيلولته في هدوء في يوم من أيام مايو في نهاية فصل الربيع وبداية الصيف، وكانت ذاكرته تختزن كل شيء، مخرت عبابه ملايين السفن والقطع البحرية والمراكب بأشرعتها في سالف الأعصر وقديم الأزمنة وبأدخنتها ومداخنها في بدايات عصور النهضة الصناعية ومحركاتها الحديثة، عاندت في عصور سلفت سواعد البحار والملاحين موجه وهم يجدفون فوقه يعبرون في التجارة أو من حرب إلى حرب منذ أن وثق هوميروس «الإلياذة والأوديسا» لحروب الأغاريق في طروادة والفراعنة في مصر القديمة واليونانيين القدماء والفينيقيين والرومان والبزنطينيين والهيلينيين والعرب والعثمانيين، وذاقت مياهه طعم الدماء التي سالت عليها في حروب حنبعل أو هنيبال وقرطاجنة وحوافر خيل البرابرة التي طعنت أعنتها خواصر الشواطئ الشمالية لأوروبا ورحلات الآيبرييين والعرب الذي حاربوا فيه من معركة ذات الصواري الى حروب العثمانيين واساطيلهم التي جابت العالم القديم، والسلافيين والرومان وغيرهم من الاجناس التي عرفته وغسلت تاريخها في مياهه من كل أوروبا وآسيا وإفريقيا، فالعالم القديم كله غاص فيه إما محارباً او عابراً او مسافراً او عاشقاً او مستلهماً او تاجراً.
 
 
 
 
«ت» هذا البحر الذي يتوسط العالم.. يعرف كل شيء عن مأساة الانسان وظلمه لاخيه الانسان، فالحروب المدمرة وسفن المستعمرين عبرته من اوروبا الى افريقيا الشمالية وآسيا والمنطقة العربية وآسيا الوسطى، كل الامبراطوريات القديمة حاولت السيطرة عليه وامتلاك جزره وشواطئه ومضايقه من مضيق جبل طارق الرابط بينه وبين المحيط الاطلسي غرباً حتى مضيق الدردنيل في بحر مرمرة ومضيق البسفور الذي يمزج مياهه مع البحر الاسود. عبرت سفن المستعمرين من اوروبا الى افريقيا فوقه، وعادت سفنهم محملة بخيرات الشعوب التي نهبوها، وبالعبيد الذين اختطفوهم من سهول افريقيا وغاباتها، وكانت أسواق النخاسة في مصر القديمة وطبرق وطرابلس وزليطن ومصراتة وتونس ومسلاتة وشواطئ الجزائر والمغرب أكبر دليل دامغ على ان هذا البحر يختزن في جوفه ملايين القصص والبكائيات المحزنة والآهات الحزينة وصديد الجروح والاشلاء، مثلما في عصرنا الحديث، واليوم ابتلعت اعماقه آلاف الجثث للمهاجرين والطامعين في الوصول الى أوروبا التي سرقت الثروات والخيرات قديماً، وتسرق اليوم الأحلام والأجساد لشباب إفريقيا حديثاً..
 
 
 
 
«ث» في جزر هذا البحر المنتشرة من شرقه الى غربه وشماله وجنوبه ووسطه، في قبرص وكالوفونيا واندروس ورودوس في شرقه، حيث كان يعربد الفينيقيون كما يشاءون، وولدت اساطيرهم الغريبة مثل اسطورة طائر الفينيق، وفي وسطه حيث جزيرة مالطة التي عرفها النورمانديون وغزاها العرب وتركوا بصمتهم عليها في اللغة المالطية التي تحتضن الكثير من المفردات العربية بصرفها ونحوها، وجزر ساردينيا وكورسيكا وصقلية وكريس وجربة في تونس وكرك، وجزر البليار في الغرب وايبيزا، فوق هذه الجزر ازدهر الفن والأدب العالمي والموسيقى والغناء والمسرح والدراما والرقص والفن الحكائي والأساطير، من الملحمة اليونانية الإلياذة والادويسة واناشيد الجوقة وانشودة رولاند والغناء الاوبرالي، وظهرت الآلات الموسيقية والهبت هذه الجزر وما حولها المدن العريقة اثينا وروما واسبرطة وغيرها، وظهر الابداع الاغريقي والروماني القديم والشعائر التعبدية لآلهة الاغريق والرومان وفنونهم وابداعهم من اوديس، والاساطير الفرعونية القديمة، وظهرت الالعاب الاولمبية، وظهور فلاسفة كبار وعلماء مثل ارسطو وسقراط وافلاطون وديوجين وفيثاغروس وابقراط وابولو واناكسيمنديس وزينوفنيس ومكتبة الاسكندرية التي اسست سنة 300 سنة قبل الميلاد، وعهد تاليس وماتليس زوريس وجوبتر وكرومولوس وهيرا وجونون، وانغمس الأدب والثقافة والقيم الحضارية القادمة من الأناضول واصداء بابل والاشوريين والكنعانيين والفرس والعرب والفراعنة في لجة البحر المتوسط، وعرفته الشواطئ والجزر ونهلت منه، ويعد عصر الشعراء الجواليين والادب الملحمي والمحكيات القصصية والاناشيد المسرحية والمسرح الغنائي في جنوب اوروبا واحدة من ثمرات التواصل مع الشرق خاصة عندما انتشر مسرح الخيال والظل وصناعة الدمي وفن الكراكوز الممتد من تركيا حتي الصين، وظهر دانتي بالكوميديا الإلهية ملتقطها من ابو العلاء المعري، ووهبت الاندلس كواحدة من اعظم تفاعلات الحضارة الاسلامية الغرب عموماً الفلسفة والادب والشعر والموسيقى والموشحات والثقافة واساليب الترقي الحضاري عندما كانت اوروبا غارقة حتى اذنيها في ظلامها المقيت الطويل.. حين كان الشاطئ الجنوبي يعج ويضج بالحضارة الاسلامية وعلومها وفنونها وآدابها وجامعاتها في القيروان والقرويين ورحلات بن خلدون ومقدماته ورحلات ابن بطوطة وابن رشد والفارابي وابن حيان والبيروني وابن سينا ورحلات بني هلال والسيرة الهلالية المعروفة وثراء ايقاعها الملحمي. وما حدث في بلدان المغرب العربي وتاريخها يضاهي ما جرى وحدث في الشاطئ الآخر للبحر المتوسط في كل عصوره في الفلسفة والفن والعلوم والمعرفة. وكان لأديان الشرق من العهد الابراهيمي والبابلي تأثير بالغ في تكوين مجتمعات البحر التوسط، وهي خليط ومزيج غريب من كل التاريخ القديم والحديث.
 
 
 
 
 
«ج» سيل هائل من الصور والمشاهد والمرائي عبر التاريخ تراءت امامي وان اراقب مياه البحر من نافذة الطائرة التي كانت تعبر من الغرب الى الشرق، ونحن فوق الجزر اليونانية كانت صورة «زوربا اليوناني» كما صورها الروائي نيكوس كازانتزاكيس تسيطر على الافق امامي، وصورة البطل العالمي الايطالي انتوني كوين الذي جسد شخصية زوربا اليوناني كما جسد شخصية البطل المجاهد المسلم عمر المختار الذي جاهد ضد الاستعمار الايطالي في بلده ليبيا. مياه البحر ملهمة.. جرت على اطياف كثيرة وغرقت في زرقتها، كأني أسترجع التاريخ والعصور القديمة تمشي امامي وورائي، وكأني اقرأ العالم من جديد في علومه وفنونه وآدابه وفلسفته، وكأني عشت وأعيش بين ابطال التاريخ ورموزه وقادته وعظماء الإنسانية في مختلف مجالات الحياة والمعرفة.. وكأني أشاهد في ماء البحر المتوسط كيف غطت الأديان سماويها وأرضيها الإنسان بغلالات من الرهبة والخوف والطمأنينة والسلام.. وكيف فعلت الحروب القديمة والحديثة به.. وكيف نشأت العلوم والسياسة والفلسفة والموسيقى.. كيف كان الإنسان يبني حضاراته على حوض هذا البحر الغريب. أصداء الحروب.. حوض السفن والبوارج والأساطيل وصهيل الخيول وقعقعة السلاح واصوات الانفجارات والقذائف والقنابل وهي تشكل لوحة من الحاضر والماضي وربما المستقبل.. كانت تزاحمني حتى حطت الطائرة منزلقة على مدرج مطار اسطنبول او الأستانة او القسطنطينة!!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد