المؤرّخ ماريو ليفِراني يعيد تشييد بابل في كتابه ‏تخيّل بابل‏ - عزالدين عناية

mainThumb

31-05-2016 10:39 PM

لم أنتبه سوى في مرحلة تالية، حين التحقت بالجامعة الزيتونية طالبا، أن استعمال ‏‏"يبَلْبِلْ تْبَلْبيلْ"، أي يتكلم بسرعة فائقة، و"مْبَلبْلْ" أي مضطرب وعلى قلق، في ‏الدارجة التونسية، مأتاهما من مفردة "بابل" ومن تلك الدلالة التوراتية العميقة الثاوية ‏في اللاوعي، حين بلبل الله ألسنة الخلق. فاللغة مثلما يقول ذلك النص الجميل ‏للودفيغ فتغنشتاين "يمكن اعتبارها بمثابة المدينة العتيقة، متاهة من الأزقة والساحات، ‏منازل قديمة وأخرى حديثة. أين تحيط بالكل شبكة من البلدات الجديدة طرقاتها ‏مستقيمة ومنتظمة وبِدُور متماثلة". فقد كانت الفرنسية التي نُلقَّن إياها في عمر ‏غضّ في المدرسة، مع سن السابعة، تزاحم وتطرد اللغة الأمّ بقوة وعنف، فتحفر ‏شروخا غائرة في ذهن الصبي.‏
 
لكن شظايا بابل اللغوية التي وردت إلينا مع الدارجة قبل أن تأتي من الفصحى، ‏كانت جزءا من إناء كبير مهشّم. لن يتيسر ترميمه مجددا سوى بواسطة الخيال أو ‏التخيل، كما يذهب المؤرخ الإيطالي ماريو ليفراني في كتابه "تخيّل بابل" المنشور في ‏ترجمة عربية من إعداد عزالدين عناية. حيث يسير الكاتب في مؤلفه وفق إطار زمني ‏متطور، يستوعب ويغطي موضوع بحثه. محاولا بناء إطار جامع لنتائج الأبحاث بعد ‏قرنين من الدراسات والحفريات حول المدينة الدنيوية، التي طالما وُضِعت قبالة المدينة ‏السماوية أورشليم، في الأدبيات التوراتية. فالكتاب تاريخي أثري لعالم آثار خبير ‏بحقله، يسلط فيه الضوء على مدينة قديمة تقع في حيز زمني متقدم، قيل الكثير فيها ‏حتى اختلط الأسطوري بالواقعي والتاريخي باللاتاريخي.‏
 
بابل منبع الطغيان والديمقراطية
 
يأتي بناءُ بابل مجدَّداً عبارة عن تخيل لمدينة متوارية، غير موجودة، ومن هنا كان ‏عنوان الكتاب "تخيل بابل". وخطورة عمل ليفراني أن مادة بحثه التوثيقية تكاد ‏تكون لاشيء عن ذلك الشرق القديم، مع أنه يُعَدّ مهد حضارتنا. حيث لم تبق من ‏ذلك الماضي البعيد -بعبارة جوهان غوتفريد هردر- سوى "مرويات لمرويات، شظايا ‏روايات، حلم عن ما بعد العالم". ينطلق ليفِراني من معالجة مسألة تشييد المدينة، ‏اكتشاف آجر البناء والتقنيات المرافقة، والتطورات الحضارية التي حصلت حتى ‏دفعت باتجاه بناء بابل، وأي دور حضاري استوجب تشييد المدينة، كل ذلك يدخل ‏في عملية البحث عن المدينة المتوارية. وكأن ليفراني يُعيد بشكل آخر أسئلة جاكوب ‏بورخاردت في بازيليا -سنة 1870- حين تساءل كيف لشعب أن يصير شعبا؟ ‏وكيف يتحول إلى دولة؟ وما هي أزمات النشأة والمولد؟ وأين يمكث ذلك الحد من ‏التطور السياسي، الذي بالانطلاق منه يمكن الحديث عن المدينة-الدولة؟
 
وحديث النشأة يستدعي بالضرورة حديثا عن أنظمة الحكم التي شهدتها المدينة. ‏فليس "الطغيان الشرقي" وليد بابل فحسب، كما يروج عادة، بل صنوه "الديمقراطية ‏البدائية" أيضا كما يبين ثوركيلد جاكوبسون (1943) المختص بالسومريات. لماذا ‏تتعثر الديمقراطية اليوم تلك قصة أخرى؟ يُعيد ليفراني النظر في تلك الأطروحة ‏متحدثا عن ديمقراطية نسبية، ليست ديمقراطية صلبة، قائمة على مؤسسات، "لأن ‏وظائف الحكم لم تتفرّع بعدُ، وبنية السلطة ليست جلية، وآلية التنسيق الاجتماعي ‏لا تزال في حال تشكل". يقول جاكوبسون "إن وثائقنا تثبت أن بلاد ما بين ‏النهرين، فترة ما قبل التاريخ، كانت منتظمة سياسيا وفق "نظام" ديمقراطي وليس ‏أوتوقراطي، كما سيسود لاحقا في بلاد ما بين النهرين التاريخية". ‏
 
وضمن ذلك السياق يتابع المؤرخ ليفراني الأبحاث الأثرية المباشرة، التي تناولت ‏الفضاءات الحضارية التي غلب الظن أنها موضع بابل، حتى ثبت الأمر بالحجة ‏والطلّ واليقين، أكان ذلك في الأركيولوجيا التاريخية أو الماقبل تاريخية، ليستخلص ‏منها ما باحت به الأطلال عن هذه المدينة وعما بلغنا عن هذه المدينة. ومن جانب ‏آخر يتابع ليفراني النظريات والرؤى التي قيلت سواء في فلسفة الحضارة، أو في تاريخ ‏العمران والفن والرسم، إلى الإناسة الاجتماعية، أو ما اتصل بفقه اللغات مستفتيا ‏إياها طريق بابل الوعر. فبناء صورة متكاملة عن بابل هو تشييد تتضافر فيه جهود ‏العديد من الباحثين في حقول شتى.‏
 
الملك الآشوري آسرحدون يصف تقدم جيشه، الزاحف والمدمر: "أمامه مدينة ‏وخلفه خراب". لكن ليفراني في بحثه عن بابل كان أمامه خراب وخلفه مدينة، تلك ‏المدينة التي اندرست منذ أن قال الناس "هلمّ نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه ‏بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسما لئلاَّ نتبدد على وجه كل الأرض. فنزل الرب لينظر ‏المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هلم ننزل ونبلبل هناك ‏لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل ‏الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دُعِي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان ‏كل الأرض" (سفر التكوين11: 1-9).‏
 
بابل المدينة النائمة
 
ومن الصواب -كما يورد ليفراني- أن من يتطلع لتأليف كتاب في هذا الموضوع، ‏بما يستوجبه من معرفة ومقدرة، يتوجب عليه ألاّ يكتفي بعلم الآثار، العائد للحقبة ‏التاريخية أو لفجر التاريخ، أو بفقه اللغات الشرقية (الآشورية والسومرية والحثية ‏والمصرية والسامية والإيرانية وغيرها)، بل يتوجب عليه أيضا توظيف علم تخطيط ‏المدن، وتاريخ الهندسة المعمارية، والإناسة الاجتماعية، والنظريات الاقتصادية، ‏والتطورية والتطورية الجديدة، والإحاطة بالتجمعات القروية وبالمشهد الفلاحي، ‏وبالطغيان والأنظمة الثيوقراطية، وبالأحداث السياسية بين أوروبا والدولة العثمانية، ‏وبالاستعمار وبالتخلص من الاستعمار، وبالكونية وبالمحلية، وبالمقاربات الجغرافية ‏الجديدة، وبالتصميم الحاسوبي والاستشعار عن بعد، وبغيرها من المجالات. كأن ‏الرجل على يقين أن التاريخ وحده أو علم الآثار وحده، يعجز كل منهما عن إيقاظ ‏هذه المدينة النائمة.‏
 
يسّرت عمليةُ تخيل بابل، أو تشييد بابل، قضاءَ الرجل السنوات الطوال منكبّا ‏على الفضاء الحضاري، سواء على عين المكان أو في المكتب –كما يقول- ،مما ‏يسّر له التجوال المعرفي فيه. فقد كتب ليفراني الكثير حول بلاد الشرق باللغتين ‏الإيطالية والإنجليزية: "أصل المدينة" (1986)، "أكد: أولى الإمبراطوريات ‏العالمية" (1993)، "الشرق القديم. التاريخ الاجتماعي والاقتصادي" ‏‏(1988)، "أصل المدينة. التجمعات الحضارية الأولى في المشرق" (1986). ‏‏"الحرب والدبلوماسية في الشرق القديم" (1994)، "العلاقات الدولية في الشرق ‏القديم" (2001)، "ما وراء التوراة: تاريخ إسرائيل القديم" (2003)، ‏‏"الأسطورة والسياسة في بلاد المشرق" (2004)، "أوروك: أولى المدن على وجه ‏البسيطة" (ترجمة مشروع كلمة 2012). فالرجل من كبار المختصين العالميين في ‏التاريخ الشرقي القديم وهو عضو في العديد من المجامع العلمية. يدرك فرز الغث من ‏السمين بشأن ما كُتب وما قيل في بابل، شأنه كشأن غريق بو الذي قال: "طيلة ‏حياتي انشغلتُ بدراسة العالم القديم، إلى حدّ أشعر أني مسكون بظلال الأعمدة ‏التي تهاوت من بعلبك وبلميرا وتخت جمشيد، وإلى حدّ أن روحي ذاتها غدت طلاّ ‏من تلك العاديات".‏
 
في هذا الكتاب المنقول إلى العربية، يحوصل ليفراني ما توصلت إليه نتائج ‏الأبحاث حول بابل على مدى قرنين، يفرز التاريخي عن اللاتاريخي، والعلمي عن ‏اللاعلمي، في حقل تعددت فيه المقاربات وتضاربت. ذلك أن بابل من أكثر مدن ‏العالم إغراءً للباحثين في التاريخ والآثار، وكان لا بد من حوصلة وغربلة لما قيل في ‏هذه المدينة منذ القديم حتى تاريخنا الراهن. ومع أن جل ما كُتب عن بابل كان كتابة ‏تاريخية، أو تقارير أثرية، فإنه لم ينشر بهذا الحجم والعمق والشمول، الذي تناول به ‏ليفراني، عملٌ حول المدينة (الكتاب: 619 ص).‏
 
فأن يتناول الكتاب بالتحليل والنقد والمتابعة مجمل الأعمال والنظريات والنتائج ‏المتعلقة بمدينة بابل، هو عملٌ قلّ نظيره في الأبحاث الغربية، وأما في الجانب العربي ‏فلم يسبق أن صدر كتاب بهذا العمق المعرفي، والمنهجية العلمية، تناول تاريخ المدينة ‏بهذا الشمول. لقد جرى تتبّع حضارة بابل من جوانب عدة في كثير من اللغات، ‏لكن مجمل ما دُوِّن خالطه الأسطوري والخيالي إلى درجة أن باتت المدينة خيالية في ‏الأذهان. مع ليفراني تغادر بابل ذلك الموضع لتغدو حقيقة، تتأسس على حوادث ‏وبقايا ووقائع، لذلك تجد الرجل حريصا على نقد سابقيه، ولم يثبت من أقوالهم ‏وكشوفاتهم في مؤلفه سوى ما تمت البرهنة على صحته.‏
 
تاريخنا سجين الرؤى التوراتية
 
يأتي المؤلَّف الحالي ضمن مشروع شامل اشتغل عليه ماريو ليفراني، يتناول إعادة ‏قراءة التاريخ القديم للمشرق العربي. في مؤلفه "ما وراء التوراة" المشار إليه، نحا ‏باللائمة على المؤرخين المهتمين بتاريخ بلاد المشرق، كيف أن المنطقة التي صنعت ‏التوراة باتت ضحية رؤى التوراة؟ ولن يتيسر ذلك التصحيح لتاريخ المنطقة، وفق ‏ليفراني، سوى باكتشاف التاريخ السابق للتوراة، وبابل على حد تعبيره إحدى ‏أعمدته القوية. من هذا الباب توجب عليه تخصيص مؤلف لهذه المدينة التي تتوارى ‏وراءها حضارة محورية في بلاد المشرق.‏
 
لكن الجلي، مع أن الكتاب يتناول موضوعا تاريخيا أثريا، فإن لغته الإيطالية تبدو ‏أنيقة وسلسة، لا تنشد محادثة المختص فحسب. فالكتاب وفق تقديري يقرأه ‏المختص في التاريخ وغير المختص، كما ثمة مسحة أدبية في لغة المؤلف مع تميز ‏بالدقة في العبارة. حيث يعالج الكاتب مفاهيم تاريخية دون التجني في القول، بل ‏يدعم مقوله بمستندات ثابتة وقوية. كما انه ينتقد الرؤى المركزية والمجحفة التي ‏تعرضت إلى بعض الجوانب من موضوع بحثه. لكن عموما، ثمة نقد خفي وجلي في ‏سائر مؤلفات ليفراني للمدرسة الغربية في قراءتها للتراث الشرقي. بدا هذا النقد ‏لاذعا خصوصا في مؤلفه "ما وراء التوراة"، وأما في كتابه المعروض "تخيل بابل" ‏فإن نقده يتوجه، بالأساس، إلى البناء المعرفي للعديد من الأبحاث.‏
 
كانت لبرج بابل قوة تخيلية متميزة، مرتبطة سواء بمسألة "تبلبل الألسن" التي ‏أثرت عميقا على التقسيمات اللغوية، أو بالثقل الأخلاقي واللاهوتي للأسطورة. ‏كما أن هناك إدانة أخلاقية للمدن الآشورية البابلية تخترق تاريخ الثقافة الغربية، ‏فنينوى وبابل مدينتا الشر، ملعونتان، على نقيض أورشليم المدينة المقدسة. يحاول ‏ليفراني الغوص عميقا في أركيولوجيا تلك الأساطير بقصد ترميم ما تهشّم من حقائق ‏التاريخ.‏


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد