إنسانية بيكاسو وجشع دالي - لطفية الدليمي

mainThumb

24-07-2016 10:05 AM

للتخفيف عن حزني دخلت القاعات المخصصة للاحتفال بمئوية سلفادور دالي عاشق فرانكو والذهب والذي كان يعلن بوقاحته المعروفة أنه يؤمن بإنسانية كل الرزايا.
 
 
 
في متحف الملكة صوفيا للفن الحديث بمدريد وقفت برهة في حضرة الغورنيكا، تأملتها وبكيت، بكيت مرة من أجلها، من أجل القرية الباسكية الصغيرة التي كانت معقلا للثوار الأسبان سنة 1937 ودكتها طائرات النازية الألمانية بالاشتراك مع طائرات الفاشية الايطالية للقضاء على الثوار والمدنيين الآمنين.. وبكيت ثانية من أجل غورنيكاتنا الألف وكانت مدننا قد دمرت بطائرات قوات التحالف وانهارت بيوتنا ومدارسنا وجسورنا وكان بوسعهم إسقاط النظام بحركة صغيرة كما فعلوا مع رئيس بنما، لكنهم شاؤوا تدمير بلد وتكريسه للخراب.
 
 
 
 
منحتني الغورنيكا بلونها الرمادي والأبيض والأسود انطباعا بطيف لوني ذي اخضرار شفيف لعل سببه انعكاسات الأضواء التي حددت مساقطها بدقة على اللوحة. لما بكيت أمامها سمعتها تنشج بصوت كتيم ووجوه نسائها الثلاثة تحتل مركز اللوحة: المرأة التي تحمل المصباح والمرأة الصارخة والثالثة الهاربة هلعا، كن يشاركنني التفجع، أدركت الغورنيكا محنتي بدموعي التي تساقطت على الرخام وبللت الحبل الحريري السميك الذي يحول بيني وبينها، رأيتها تقترب مني وتتخطى حاجز الحبال ويلتمع شعاع مصباحها المحطم على وجهي وكأنها كانت تحاول عناقي وقد استشفّت لوعتي على غورنيكات بلادي الموزعة ما بين مدن العراق السبية، وكأنها كانت تهمس لي: ستبقى الغورنيكات ما بقي الإنسان يتبع شهوة الدم، فهذا قدر البشرية ودور الفن أن يصون شعلة الأمل.
 
 
 
 
الغورنيكا التي يفخر متحف الملكة صوفيا للفن الحديث في مدريد بأنها إحدى أهم معروضاته وأثمنها، لبثت سنوات طويلة في متحف الفن الحديث في نيويورك ثم نقلت إلى أسبانيا بعد رحيل الجنرال فرانكو وجرت احتفالات كبيرة باستعادتها ووقفت صفوف النساء والرجال أياما من أجل إلقاء نظرة على أيقونة الفن الحديث التي تعلن مناهضة الحرب والتمسك بالأمل والسلام، فكنت ترى العجائز اللائي فقدن أبناءهن ورجالهن وعشاقهن في الحرب الأهلية يقفن أمام الغورنيكا وتكاد وجوههن المخددة بالغضون العميقة وأسى الفقدان تتشابه مع ألوان اللوحة الرمادية الحزينة، أما الشباب من الجنسين فقد كانوا يمرون أمام الغورنيكا بنوع من الزهوّ الممزوج باللامبالاة، يتظاهرون بالاهتمام أمام الألم الإنساني الذي جسدته لوحة بابلو بيكاسو الخالدة.
 
 
 
 
تحولت الغورنيكا خلال القرن العشرين من لوحة فنية تؤرخ لكارثة إنسانية إلى رمز للفن الحديث مثل تاسعة بيتهوفن بالنسبة إلى الموسيقى الكلاسيكية والحرب والسلام لتولستوي، فقد غدت أيقونة ثقافية تخاطب الجنس البشري في جهات عالمنا وتحث الناس على وقف الحروب والإيمان بالأمل والسلام حتى عدّت أحد مصادر عصرنا عن النزعات العنصرية النازية والفاشية إزاء البشر.
 
 
 
 
غادرت القاعة المخصصة للغورنيكا مع دموعي وشجن القلب، كانت ألوانها المتدرجة بين الرمادي والأسود والأبيض تغطي المرأى حتى أنني توقفت برهة أستعيد فيها قدرتي على البصر ومشاهدة أعمال فنية أخرى لبيكاسو وخوان ميرو وتابيس، وللتخفيف عن حزني دخلت القاعات المخصصة للاحتفال بمئوية سلفادور دالي عاشق فرانكو والذهب والذي كان يعلن بوقاحته المعروفة أنه يؤمن بإنسانية كل الرزايا ويردد دائما “تبا للبشرية، أنا أحتقرها”.
 
 
 
إحدى القاعات كانت تعرض الإعلانات التي صممها دالي والأشرطة الإعلانية التي اشترك فيها ممثلا وعارضا للسلع، إعلانات عن الشيكولاتة والعلكة والجوارب النسائية والسيارات. كان يعلن عن الزائل والتافه واليومي ليتمتع بملمس سبائك الذهب التي يطلبها بدل النقود ثمنا للوحاته. هكذا تتجاور في عالمنا على نحو ساخر عبقرية الإنسانية لدى بيكاسو وعبقرية الجنون والجشع عند سلفادور دالي.
 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد