النموذج التركي وتعدد مسؤوليات إفشاله - بيسان الشيخ

mainThumb

24-07-2016 10:17 AM

قبل أقل من خمس سنوات، كان مصطلح «النموذج التركي» يعادل معنى النجاح بكل المقاييس. نمو اقتصادي لم تزعزعه الأزمة المالية العالمية، طبقة وسطى آخذة في الاتساع، مزيد من الحريات السياسية والإعلامية والثقافية، انفتاح على المحيط العربي ودول الغرب عبر علاقات سياسية وعسكرية، ولكن ايضاً على مستوى السياحة والتجارة والاستثمارات العامة والخاصة.

 

 

 

ويبقى الأهم من ذلك كله، تقديم تركيا نموذجاً ناجحاً عن امكان مواءمة حكم الإسلام السياسي مع الديموقراطية، وعدم التعارض بين سلطة حزب ديني والحريات الفردية والعامة، لا بل التمسك بنظام علــماني للدولة وقوانين مدنية لتسيير حياة الناس والفصل في خلافاتهم. وكتب الكثير عن ذلك البلد الذي خرج من ازمات متتالية، واستطاع في وقت قياسي ان يثبت للعالم الإسلامي والغربي - المسيحي على السواء، كيف ان «الإسلام (كدين) لا يتنافى مع قيم الحداثة».
 
 
 
والواقع ان «حزب العدالة والتنمية» قـــدم مع بدء صعـــوده وقبيـــل وصوله الى السلطة اشارات واضحة بأنه حزب بأطياف كثيرة، يؤيد تداول السلطة والانفــتاح الاقتصادي، ويسعى إلى ادخـــال تركيا الى الاتحاد الأوروبي، مع كل ما يفرضه ذلك من شروط كثيرة وصعبة، ومنها كف يد الجيش عن السياسة.
 
 
 
وإذ تربص كثيرون بالحزب الصاعد لجهــــة البحـــث عن ثغرات في الأداء تكشف عن رغبة دفينة ما في «أسلمة الدولة» (وربما كانت بذورها موجودة)، اعتمد «العدالة والتنمية» أعلى درجات الحذر (أو التقية على ما يسميها كثيرون)، بعدم المساس بالدستور، او التلميح الى احتمال جعل الشريعة مصدراً من مصادر التشريع، على ما جرى سريعاً في بلدان «الربيع العربي» فور وصول الإسلام السياسي الى الحكم، ورفعه راية «النموذج التركي».
 
 
 
واللافت انه حتى في خضم الأزمة الانتخابية في 2007، والتي انتقد خلالها مرشح الحزب للرئاسة، وزير الخارجية آذناك، عبدالله غل لأن زوجته محجبة، ليتحول حجاب السيدة غل الى قضية هوية وطنية، بقيت البراغماتية السياسية ومراعاة المزاج العام للناخب التركي هي السائدة من جانب «العدالة والتنمية». فلاحقاً، عندما سمح للنساء التركيات بارتداء الحجاب في الأماكن العامة والمرافق الحكومية والجامعات وغيرها، (وكان ذلك ممنوعاً حتى أمس قريب)، لم يأت ذكر الشريعة ولا دار جدل لا طائل منه في ماهية الحجاب الفقهية، بل ببساطة تم الركون الى شرعة حقوق الإنسان ومبادئ حرية الأفراد في اختيار أزيائهم وما يعبر عن تطلعاتهم وهوياتهم.
 
 
والأمر نفسه جرى حين تدخل الجيش علانية في سير تلك الانتخابات نفسها، معلناً عن واجبه في حماية علمانية الدولة ولوح بسلطاته شبه المطلقة في هذا المجال، ليأتي الرد سريعاً بأن ذلك يقوض عمل المؤسسات، ويضعف مدنية الدولة، ويذكر بحكم العسكر. فاكتسب خطاب الحزب زخماً اضافياً في الشارع حتى بين خصومه التقليديين، كما تلقى تصفيقاً وترحيباً من الاتحاد الأوروبي. فماذا يمكن ان يطلب الأوروبيون من «جار مسلم»، أكثر من ذلك؟
 
 
لكنهم عملياً طلبوا. وبالغوا بفرض الطلبات ووضع المعوقات التي تمنع دخول بلد ناجح اقتصادياً مثل تركيا الى نادي النخبة، فيما قبلوا في الفترة نفسها انضمام بلدين اقل نجاحاً والتزاماً بدفتر الشروط مثل رومانيا وبلغاريا.
 
 
طبعاً ليس من آداب «الصواب السياسي» ذكر اسباب الرفض، والتأجيل والمماطلة، ولكن الأتراك وبكل أطيافهم تيقنوا أنهم مهما فعلوا، لن ينظر الأوروبيون اليهم إلا من عدسة الهوية الدينية. انهم تلك الكتلة المسلمة الهائلة، التي لا يمكن ان تهضمها أمعاء الأوروبيين وما باليد حيلة.
 
 
كانت الصفعة كبيرة، فقد نالت من الشعور الوطني - القومي العميق والعابر للتيارات السياسية. اختلطت الأوراق من جديد، وبات سهلاً ان يأتي من يقول حسناً إذا، فلنضرب بمبادئكم عرض الحائط ولنلتفت الى «العالم العربي والإسلامي» حيث يمكننا على الأقل القيادة.
 
 
 
هل كان رجب طيب اردوغان طامعاً بالسلطة ومتعشطاً لها في ذلك الوقت؟ هل كان فعلاً يسعى الى «اسلمة الدولة» من داخل اروقة الحكم بهدوء ومن دون كثير صخب كما يحكى اليوم؟ ربما. لا شيء يمنع ان يكون ذلك كله صحيحاً. وكانت بشائره بدأت تلوح مع دور اقليمي اضطلع به عبر ما سمي «قيادة العالم الإسلامي»، ولم يأت من يوازنه أو يتحدى سلطاته عربياً. بل بدا الجميع سعيداً ومستفيداً من ان تقدم تركيا تلك الواجهة والنموذج.
 
 
ومع انطلاق الثورات العربية في 2011، وصعود «الإخوان المسلمين» إلى سطح الحياة السياسية ووصولهم الى الحكم في كل من مصر وتونس، تكرس اردوغان زعيماً سياسياً وروحياً عابراً للحدود والهويات الوطنية. ومع الثورة السورية، التي لعبت فيها تركيا دوراً كبيراً، وتحولت الى ركيزة السياسة الإقليمية، ولم يتضخم نفوذ اردوغان فحسب، بل ومعه شعوره الشخصي بالعظمة وقدرته على أي شيء. وكان اول اختبار حقيقي له، تظاهرات «حديقة جيزي» قرب ساحة تقسيم في 2013 التي كشرت فيها السلطة عن أنيابها، وقمعت التظاهرات السلمية بيد من حديد، وبات واضحاً منذ ذلك الحين ان البلاد تنحو باتجاه منعطف جديد سمته التفرد بالحكم, حزباً او قيادة، وبدأت اضاعة الفرصة وضرب المسمار تلو الآخر في نعش «نموذج تركي» كان ليكون تجربة نجاح حقيقية، ومثالاً يحتذى. اما محاولة الانقلاب الأخيرة، وعواقبها التي لن تنتهي قريباً، فليست الا قمة جبل جليد يتكشف قريباً وقد يطوي تلك الصفحة الى غير رجعة.
 
 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد