داعش يغتال المنطقة الرمادية - سوسن الأبطح

mainThumb

31-07-2016 09:22 AM

يجب ألا نختبئ وراء إصبعنا، ألا ندفن رؤوسنا في التراب كالنعامات. أن نتساءل بصراحة: لماذا لا يستنكر الرأي العام العربي بشكل حاسم، وبصوت قوي العمليات الإرهابية البشعة التي يرتكبها أبناء جلدتنا في أوروبا، رغم أنها تندي الجبين؟ لماذا لم يكتب المثقفون العرب مطالعاتهم التي تهز الوجدان ضد ما يرتكب باسم الإسلام، في عواصم العالم؟
 
 
 
 
الصمت أبلغ من الكلام أحيانًا. التنديد الخجول، لا يمنع أن ثمة إحساسًا، يكتب عنه على استحياء، بأن العمليات الإرهابية الفظيعة التي تشهدها أوروبا، هي ثمن سياسات خاطئة طويلة الأمد ارتكبتها القارة العجوز، خاصة الدول النافذة فيها. ثمة شعور دفين وأليم، بأن مئات آلاف العرب قتلوا ويقتلون جزًّا وطعنًا ودهسًا وتفجيرًا بالبراميل في بلدانهم، ولم تهتز الأمم، لإنقاذ طفل أو لاستنكار مقتله. حتى العرب الأوروبيون الذين تجرى معهم مقابلات تلفزيونية عابرة، لاستطلاع آرائهم في الإجرام الذي يزلزل مدنهم بعد كل عملية، يبدون في حزن وكمد، لكن عيونهم تشي بكلام كثير لا يملكون البوح به.
 
 
 
 
للمرة الأولى بعد جريمة ذبح القس الفرنسي المسن جاك هامل في كنيسة سانت إتيان دو روفراي، بدأنا نسمع في فرنسا، أصواتًا تطالب بالالتفات لما يجري على الضفة الأخرى من المتوسط، بالمصالحة مع شعوب أهملت طويلاً وظلمت مديدًا.
 
 
 
 
بقيت أوروبا، تظن أن المنطقة العربية مجرد خزان نفط وسوق شرهة، يشتري طائراتها وسياراتها وأسلحتها الكاسدة، إلى أن اجتاحتها كالجراد أفواج الجوعى والمحرومين. للمرة الأولى، ربما، وقد ردمت المسافات بأسرع مما كان متوقعًا، يتحدث الفرنسيون عن خوفهم من حرب أهلية داخلية بين مسلميهم ومسيحييهم، وعن خطط «داعش» ونظريته الأثيرة، لتقسيم العالم إلى أسود وأبيض، على غرار عَلَمه الشهير، وعن رغبته التي بدأ ينفذها في فصل المسلمين عن بقية الخلق، في «دار للكفر» وأخرى «للإسلام». التحذيرات كبيرة، من أن «داعش» أنجز جزءًا من أهدافه الملغومة، في جعل مسلمي أوروبا، فئة منبوذة ينظر إليها شذرًا، وتستعدى كي تخرج على الناس بأسوأ ما لديها، حتى صار طليقًا يائسًا يدهس العشرات، وعاطلاً عن العمل يبحث عن أقرب قنبلة ليفجر نفسه، وضالاً عن سواء السبيل يذبح رجل دين وهو يدعو إلى محبة الله.
 
 
 
 
كلام كثير يتردد، عن جهل أوروبي بسيكولوجية المتشددين الإسلاميين، رغم جهود المستشرقين الجبارة التي استنزفت منذ القرن الثامن عشر، لفهم المنطقة وغزوها والسيطرة عليها. أحد الباحثين كتب عن «الجهاديين» يقول: «إنهم يعرفوننا أكثر مما نعرفهم، وهذه هي المشكلة!».
 
 
 
 
وضع البابا فرنسيس إصبعه على الجرح وهو يتحدث عن «حرب من أجل المصالح والمال والموارد» رافضًا اعتبارها حربًا دينية، وهذا صحيح. لكن الفكر الديني الشاذ كما العلماني أيضًا، يمكن أن يوظف شر توظيف.
 
 
 
مقابل «دواعش المسلمين» ينمو «دواعش أوروبا»، وقد يصلون إلى السلطة بأصوات الناخبين وإرادتهم الحرة النزيهة. بدءًا من دونالد ترامب، مرورًا بمارين لوبن، ها هو اليمين في أوروبا يعلن منذ سنوات عن منظمة جديدة تهدف إلى مكافحة ما سمته بـ«الأسلمة» في مدنها. وهؤلاء أشد خطورة من «داعش» وأدهى، وهم يجمعون خلفهم ملايين المناصرين.
 
 
 
 
التركيز في الصحافة الغربية هو على «المنطقة الرمادية» التي يستهدفها المتشددون الإسلاميون، أي تلك التي يسودها «العيش المشترك» بين المختلفين، دون الاعتراف بأنها هدف للمتطرفين الأوروبيين، وأن تباين الأسلوب.
 
 
 
 
المعركة المقبلة، ليست بين الإسلام وأديان أخرى، كما يريد أن يوهمنا «داعش» أنها بين رؤيتين للحياة، تلك التي تدافع عنها أنجيلا ميركل حتى لو أطاحت بها، والتي يواجه بها الدنيا أبو بكر البغدادي، ولو كان الثمن تدمير العالم.
 
 
 
في الوقت الذي يعلن فيه «فيسبوك»، الرمز الأعلى للون الرمادي الذي كسب عشق أهل الأرض، وهم يتحابون ويتصارعون ويتعارفون على صفحاته، عن أرقام قياسية ذهبية، غير مسبوقة في فضاءات التواصل بحيث وصلت أرباحه إلى 186 في المائة مع ما يقارب ملياري مستخدم، يبلغ التطرف أوجه شرقًا وغربًا.
 
 
 
هناك حرب، كما قال البابا فرنسيس، بين من يدافعون عن «المنطقة الرمادية» بكل ما فيها من نبل وتعالٍ، وبحث عن الجوامع الإنسانية المشتركة، ومن ينتحرون في سبيل «التطهير الديني»، منتهجين التحريض وغسل الأدمغة، وصولاً إلى تحويل بعض المدن إلى أفران غاز هتلرية، كما جرى في سوريا والعراق.
 
 
 
الجرأة الأوروبية الوليدة، يجب أن تقابلها أصوات عربية أجرأ. النفاق لم يعد يجدي. المستهدفون ليسوا عربًا أو أوروبيين، وإنما كل أولئك الذين ينشدون العيش من دون حقد وضغينة.
 
 
 
لم يكن أبو بكر البغدادي يمازحكم، في مايو (أيار) من العام الماضي وهو يخاطبكم في رسالة صوتية تقول: «في يوم ما سوف تنقرض المنطقة الرمادية، وعندئذ لن يكون هناك أي مكان بعد للألوان وحركاتها، بل سيكون فقط معسكر المؤمنين ضدَّ معسكر الكفَّار».
 
 
 
لقد حانت لحظة الحقيقة، تسامحوا وتصارحوا، فإن «دواعش العصر» يتأهبون للفتك بكم.
 
 
 
نقلا عن "الشرق الأوسط"
 
 
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد