مصر المحبوسة في عربة الترحيلات - مي عزام

mainThumb

31-07-2016 09:33 AM

 (1) مفتتح

 
السينما كتابة بالصور (جان كوكتو )
 
 
الحقيقة أكبر من تلك العبارة، فلقد تفوقت السينما على الكلمة وأصبحت أكثر تأثيرا، شعرت بذلك بعد مشاهدتي لفيلم اشتباك، فكرت كم كنت أحتاج من صفحات أنا أو غيري من الكتّاب، لنعبر عن عمق المعاني التي تجلت على مدى 97 دقيقة، مدة عرض الفيلم، وكيف كنا سنعبر عن هذا الاختلاف وهذا التلاقي في الشخصيات المتنافرة.. المحشورة في هذا السجن الصغير، فهي شخصيات مختلفة الأفكار والمبادئ، الثقافة، الملابس، الطبقة الاجتماعية، وكذلك مختلفة في علاقتها بالدين، ولكنها جميعًا تشترك في المزاح، وخفة الظل والقفشات التي تدل على اللطف والخفة والتسامح مع السخرية التي لا تؤذي المشاعر ولا تذل النفس.
 
 
الجميع في سيارة الترحيلات يتقاسمون الخوف من المجهول والاحتياجات الآنية.. جميهم مخطئ ومصيب في آن واحد.. جانٍ وضحية.
 
 
إنها ليست مجرد سيارة ترحيلات تابعة لوزارة الداخلية، ولكنها تعبر عن مصر الشوارع والحارات، مصر بناسها العادية.. ملح الأرض.. ليس بينهم ضابط شرطة أو جيش أو قاضٍ.. جميعهم بلا حصانة.. حتى آدم الصحفي المصري الأمريكي عاجز مثلهم بل ربما أكثر منهم، فهو الوحيد بينهم المقيد بالأصفاد الحديدية في قضبان نافذة السيارة، لا يستطيع أن يبرح مكانه الملتصق بالنافذة.
 
 
(2)
 
المكان: سيارة ترحيلات
 
الزمان: يوليو 2013، في فترة الاضطرابات التي تلت عزل الرئيس مرسي
 
 
الأشخاص: آدم صحفي مصري أمريكي يعمل في وكالة أسوشيتدبرس وزميله زين مصور، أسرة حسام: زوجته نجوى وابنه فارس (13 سنة) اعتادت الأسرة على النزول في المظاهرات، منص وفيشو شابان في العشرينات عاطلان، الأول يحب الموسيقى ويريد أن يعمل في مجال الـ«دي جي» والثاني ألتراس أهلاوي، صلاح رجل مسن يبحث عن ابنه طارق (الذي التحق بجماعة الإخوان) ويصحبه رضوان الذي يعمل عنده في محل الموبايلات، خيشة يبدو أنه بلطجي، ولكنه في الحقيقة يحاول أن يخفي ضعفه وراء الموس الذي يخفيه في فمه، يعمل سايس وينام في الشارع، لم يكن له سوى كلب أجرب قتل في مظاهرات الإخوان فخرج غاضبا عليهم ليتظاهر ضدهم، هؤلاء هم الدفعة الأولى في السيارة، ثم أضيف لهم مجموعة من أعضاء جماعة الإخوان والمؤيدين لهم، ومنهم رجل مسن معه ابنته.
 
 
الفيلم يظهر حقيقة المجتمع المصري المتداخل العناصر، فلا يمكن أن يتم عزل فئة عن أخرى، كما حاول القيادي الإخواني معاذ حين قال: «كلكوا تيجوا في ناحية وإحنا في ناحية علشان نقلل المشاكل» معاذ حاول أن يفصل بين الإخوان وغيرهم من أول لحظة دخل فيها سيارة الترحيلات، وبالطبع هذه القسمة انتهت بعد لحظات بحكم الواقع، أي محاولة لقسمة الشعب لأخيار وأشرار ستبوء بالفشل، المصريون في الشدة ينصهرون في بوتقة واحدة، وينسون جميعا خلفياتهم واختلافاتهم.
 
 
الفيلم يلفت نظرنا لأشياء مهمة جدا في حياتنا، نقلل من شأنها كثيرا ولكنها هي التي تظل في العمق تحرك تصرفاتنا وسلوكنا.. ويجب أن نكون فخورين بها:
 
 
الأسرة حجر الأساس عند المصري:
 
يظهر الفيلم أهمية الأسرة عند المصريين، وعصبية الدم التي تتفوق على أي أيديولوجيا أو مذهب أو صداقة ويظهر ذلك في عدة مشاهد هامة:
 
 
مشهد نجوى التي تصر على ركوب سيارة الترحيلات مع ابنها فارس وزوجها حسام، وحينما تجد الضابط مترددا، تثير الشغب أكثر من مرة حتى يضطر الضابط في النهاية لحجزها في السيارة، ونعرف أن نجوى كانت رافضة الخروج لهذه المظاهرة مع زوجها لأنها شعرت أن الأجواء مختلفة عن يناير، لكن بعد أن اصطحب حسام ابنهما نزلت معهما مرغمة خوفا على ابنها.
 
 
 
صلاح، رجل مسن يكره الإخوان ويصنفهم كإرهابيين، فلقد سرقوا ابنه طارق من حضنه، ولكن رغم ذلك فهو ينزل الشارع كل يوم في المظاهرات لعله يعثر عليه أو يجد من يدله على مكانه، رغم أنه خرج عن طوعه يبقى الابن الذي يتمنى ان يطمئن عليه.
 
 
الحاج حمزة وولداه حذيفة ومالك، أسرة إخوانية أصيلة، تم القبض على الأب وحذيفة في مظاهرة واحدة، لكنهما افترقا في عربة الترحيلات، وكلما تجاورت السيارتان نادى كل منهما على الآخر ليطمئن عليه وكان حذيفة يوصي معارفه في عربة أبيه «خلوا بالكم من أبويا»، وكان الأب مشغولا على مالك، الذي يظهر في نهاية الفيلم كسائق لسيارة الترحيلات بعد هروب سائقها المجند، وكان معاذ يريد منه أن يتوقف وحذيفة يطلب منه أن يقودهم إلى مظاهرة إخوانية، ويخبره بوفاة والدهما المسن في عربة الترحيلات، ويطيع مالك أخاه بدلا من «معاذ» القيادي الإخواني الذي بايعوه على السمع والطاعة من قبل.
 
 
منص، وفيشو: صديقان، وأبناء منطقة واحدة، منص رافق فيشو في المظاهرة ضد الإخوان ليحميه كطلب أخته وأيضا ليفاتحه في رغبته في الزواج منها، ورغم الصداقة التي تجمعهما والمصير المشترك في سيارة الترحيلات، انقلب فيشو على صديقه عندما عرف بأمر علاقة الحب التي تجمعه بأخته ولم ينصت لدفاعه عن نفسه، بل أراد أن يبرحه ضربا لولا نجاح ركاب السيارة في التفريق بينهما.
 
 
العجوز الملتحي وابنته عائشة (14 سنة)، الرجل ليس إخوانيا، فهو شيخ ملتزم دينيا هو وأسرته، ابنته الصغيرة عائشة أصرت على التظاهر متأثرة بما تسمعه من أنها مظاهرات من أجل الدفاع عن الإسلام، الرجل الطيب المسن لم يستطع أن يردع ابنته وايضا لم يستطع أن يتركها تنزل وحدها، فرافقها ليحميها، وانتهى به الحال للإصابة وربما الموت ولم يرافق ابنته إلى نهاية الرحلة. ولكن لم يغِب عن ذاكرة الابنة، فلقد أطبقت قبضتها على بطاقته الشخصية ونظرات الحزن والأسى لا تفارق عيونها.
 
 
خيشة.. واحد من ملايين المهمشين الذين يعيشون في الشارع، ليس لهم أسرة ولا أنيس، لم يكن لديه إلا كلب أجرب اعتبره أسرته، فهو الوحيد الذي اهتم بأمره ومن أجله نزل ضد الإخوان، فالكلب قتل على أيديهم في مظاهرة.
 
 
حسين، شاب صغير السن يبدو عليه أنه من أبناء الطبقة الوسطى العليا، يعيش في التجمع والده متوفٍّ وخاله لواء شرطة، حين تم القبض عليه بالخطأ، استعار موبايل منص ليتحدث لأمه مستنجدا بخاله، فالأسرة هي الظهر الذي يحتمي به.
 
 
آدم الصحفي المصري الأمريكي، لم يسمع من أبيه المهاجر خيرا عن مصر التي ذاق فيها الظلم والاعتقال على يد نظام عبدالناصر، لكن هذا الأب وصى ابنه بأن يدفن في مصر.. وعاد آدم لمصر تنفيذا لوصية أبيه.
 
 
 
الأسرة محور هام جدا في حياة المصريين وعلى قائمة أولوياتهم، رغم كل ما نردده عن التفكك الأسري وعقوق الأبناء تبقى هي الأصل والجذور التي نحميها وندافع عنها ونغار عليها.
 
 
 
مازال قلب المصري عامرا بالتعاطف الإنساني والمشاعر الرقيقة رغم خشونة السلوكيات التي ينتهجها المصريون فيما بينهم، ولقد ظهر ذلك في عدة مشاهد معبرة جدا أهمها:
 
حين قام خيشة بالاعتداء على أحد أعضاء جماعة الإخوان بالموس وأحدث له جرحا غائرا في جبهته أسرع الجميع لنجدته وإبعاد خيشة عنه وقامت نجوى (ممرضة) بتضميد الجرح، رغم طلب الإخواني لها ألا تلمسه لأنها سيدة، وهي غير محجبة.
 
 
 
حينما أصبح المجند عويس، الذي تعاطف مع عائشة ووافق أن تنزل لتدخل الحمام، سجينا في عربة الترحيلات مع الآخرين، بسبب هجوم مظاهرات الإخوان على المجندين، لاحظت نجوى الصليب المرسوم على معصمه وطالبته برقة أن يخفيه خوفا عليه من تعصب الإخوان الموجودين في العربة.
 
 
عمر الإخواني ترفق بالمجند عويس وأعطاه سترة مختلفة عن الزي العسكري الذي يرتديه، حتى لا يصيبه أذى في مظاهرات الإخوان.
 
 
 
حين أصيب حسام زوج نجوى بسبب حجر من مظاهرة إخوانية، تسبب في جرح في كتفه، سارع الجميع لنجدتهم ومنهم خيشة الذي أبدى رقة لا تتلاءم مع صورة البلطجي التي كان يحاول أن يرسمها لنفسه.
 
 
 
حين طلبت نجوى من عائشة دبوسا لترتق به جرح زوجها النازف، فكت الأخيرة حجابها دون تردد لتعطيها دبابيس تثبيت الحجاب، وظهر شعرها الناعم الطويل منسدلا ليزيدها بهاءً، ونظر إليها الشاب حسين الثري (الذى يرتدي «توكة»شعر) بإعجاب ولطف وود حقيقي وهي بادلته النظرات قبل أن تسارع بتغطية شعرها من جديد.
 
 
 
المشاعر الطيبة تجمع المصريين لكننا لم نعد نتذكرها، وجاء فيلم اشتباك ليطرح علينا حقيقة غائبة: كيف لهؤلاء الأشخاص المسجونين في 8 أمتار (مساحة عربة الترحيلات) أن يتفاهموا ويعيشوا معا وهم: مسلم، مسيحي، إخواني، سيساوي، جندي، بلطجي، فقير، غني، ساكن عشوائيات وساكن كمباوند، في حين لا تسعنا أرض الوطن بطولها وعرضها..
 
 
 
هناك ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، فلماذا نترك السيارة في مهب الريح يتقاتل حولها الجميع ويموت فيها الجميع دون تمييز، ولماذا لا نستطيع أن نقودها إلى سكة السلامة وليس إلا سكة الندامة التي تزيد الحياة تعقيدا.
 
 
الختام :
 
(3)
 
لا أريد أن أدخل في متاهة تقييم الفيلم سياسيا، فالعمل الفني الجيد مثل اشتباك أكبر من التقييم السياسي، ومحاولة وضعه في خانة مع أو ضد.
 
 
تحية خالصة لمحمد دياب مايسترو الفيلم، الذي اشترك مع أخيه خالد في كتابة القصة، عناصرالفيلم كلها كانت على مستوى جيد جدا: التصوير، المونتاج، الصوت، اختيار الممثلين، الملابس..... إلخ، أداء الممثلين مقنع ومنسجم، أنا فخورة بأن لدينا فيلما يستحق المشاهدة أكثر من مرة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد