آلة العيش - جمانة حداد

mainThumb

22-08-2016 09:34 AM

هذه الحديقة الكبرى، التي تُدعى الحياة الحديثة والمعاصرة، تجعلنا أسرى بكل ما في كلمة الأسر من معنى حقيقي وواقعي. المال هو، بكل أسف، الشريان الأبهر، الذي بات يسيّر الحياة وخياراتها، ويضخّ فيها لا الدم فحسب، ولكن أيضاً الشرط الوجودي برمته. حتى لأقول في أعماقي: كيف سمح الإنسان لنفسه بأن يصير عبداً بملء إرادته، وبأن يستسلم للمشيئة المادية العظمى، مشيئة المال، التي باتت تسيّر هذا الكون؟

 

 

 

في جميع أنحاء عالمنا اليوم، يستيقظ البشر من النوم، ويمضون نهاراتهم في الكفاح من أجل مواجهة مشقات العيش، وانتزاع المال من براثن اللحظة. فأيّ حياة هي هذه الحياة، إذا كانت آلة العيش، في الليل والنهار، في الحلم واليقظة، في الوعي واللاوعي، لا تمشي إلاّ بقوة الدفع المالي، التي تستنفد الأحلام والآمال وكل عناصر السعادة البشرية. المسألة وما فيها ليست في الغنى والفقر فحسب. إنها في القيمة الإنسانية والأخلاقية للبشر: الآن وهنا، وفي مكان وزمان. أن يكون الإنسان إنساناً، أو لا يكون: هذه هي المسألة.
 
 
 
كل ما عداها، يندرج في التفاصيل النافلة، التي لا تغيّر شيئاً في جوهر المسألة.
 
 
 
لا المال، ولا الجاه، ولا المناصب، ولا المظاهر، ولا الشهرة، يمكنها أن تحدّد قيمة الإنسان، وأن تمنحه شرف الأنسنة.
 
 
 
الموضوع الواحد الوحيد هو إنسانية الإنسان. لذا يؤلمني الوحش الذي ينام داخل الإنسان.يؤلمني أكثر، الوحش الذي يستيقظ داخل هذا الإنسان، فيصير بديله، ويلتهمه قبل أن يلتهم الآخرين. السرّ والعبرة هما في جوهر الإنسان، لا في ماله ولا في مناصبه ولا في نظرة الناس إليه.
 
 
 
الفقراء، النبلاء، ذوو الهامات المرفوعة والكرامات العالية، هم أسياد هذه الأرض، وهم ناسها الحقيقيون. في المقام نفسه، أضع الأغنياء، المتواضعي النفوس، المستنيري القلوب والضمائر، والنظيفي الأيدي، الذين هم أيضاً أسياد هذه الأرض، وهم ناسها الحقيقيون. تجمع بين هؤلاء وأولئك، وتوحّدهم، القيمة الإنسانية، فقط لا غير. وعليه، فإن الغنى باطل في ذاته، إنْ لم يجيَّر لصالح الجوهر الإنساني. المال عظيم، وخطير، وقادر على فعل العجائب. لكنه قادر في الوقت نفسه على أن يجعل الإنسان صفراً من حيث الجوهر.
 
 
موقفي هذا ليس ضدّ الأغنياء في المطلق، وليس مع الفقراء في المطلق. إنه فقط دعوة الى أن يكون الإنسان إنساناً. أي الى أن ينزل "على الأرض"، ليحيا إنسانيته الحقّة، بين البشر، وليمتحن هذه الإنسانية، حيث هناك فقط تتحدّد القيمة الحقيقية للوجود.
 
 
صحيفة النهار اللبنانية
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
 

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد