أشياؤها العتيقة - ريم قيس كبّة

mainThumb

24-08-2016 09:38 AM

فالأب وطن والزوج وطن والحبيب وطن والصديق الصدوق وطن.. وحين يختصر الآخر كل تلك الصفات مرة واحدة ولو لبعض الوقت يصبح من الصعب جدا أن ننسلخ عنه.
 
 
انتهت قصتهما.. كان انفصالا قبيحا غذى الصالونات وخيالات الفضوليين بأبشع قصص الخيانة والاتهامات المتبادلة والقذف وتشويه السمعة.. تبعه مرض مزمن أقعد الزوجة عامين كاملين ما بين مستشفيات ومصحات نفسية.. واختفاء مريب للزوج جعله يدمن عزلة لم يكن يجيد أعشارها حين كان مع زوجته.. وارتباك استبد بطفلين كانا يعانيان بصمت من وضع عائلي متعب تطلب استيعابا لم تكن لتتقبله أعمارهما إلا بصدمة..
 
 
وتمر الأعوام.. وينجح الزمن بمداواة شيء مما يمكن مداواته من آثار أثقلت كاهل أسرة برمتها.. وتعود الحياة إلى سابق دبيبها المعتاد شاهرة وجودها المشرق رغم قتامة الجراح.. يخرج الزوج من عزلته ليستعيد بالتدريج أمجاده النسائية وحياته الصاخبة السابقة.. وتجبر المسؤولية الزوجة على أن تستعيد توازنها لتتفرغ لتنشئة الطفلين وهي تقوم بدور الأب والأم معا.. فلا يدع لها الانشغال من دقائق تمكنها من الالتفات إلى نفسها وإلى إصلاح ما أفسده الزوج فيها.. مرت إذبانها بكل مراحل الفقد: من الصدمة إلى الانهيار إلى الغضب إلى التفاوض إلى الاستسلام والكآبة.. لكن مرحلة التقبل الأخيرة هي التي أخذت منها ما أخذت من سنين لم تكن تحس بمرورها إلا حينما تتنبه فجأة لعمر طفلتها وطفلها اللذين كانا يشكلان الدليل الوحيد على تقدم الزمن..
 
 
 
والغريب أن تلك السنوات نجحت في أن تجعلها تتجاوز الشعور بالغضب والألم والانتقام.. حتى صار ما يعتمل في داخلها من مشاعر أقرب الى الحنين والافتقاد لأيام الحب الحارقة وحرارة السرير الأول وروعة أيام الارتباط الأولى ورفاهية العيش في كنف زوج وحبيب.. كان ثمة شيء في داخلها يلحّ على فكرة الانتظار.. لا لارتباط جديد وحب جديد وإنما للعودة إلى دفء الأسرة مع ذلك الزوج دون سواه!..
 
 
 
ليس هو التعود أو إخلاص المرأة العاشقة أو الأم الحريصة ما كان يغذي ذلك الإحساس العجيب.. بل هي النوستالجيا والشعور بالغربة خارج حدود الوطن.. فالأب وطن والزوج وطن والحبيب وطن والصديق الصدوق وطن.. وحين يختصر الآخر كل تلك الصفات مرة واحدة ولو لبعض الوقت يصبح من الصعب جدا أن ننسلخ عنه وأن نتخلى عن كل مشاعرنا تلك مرة واحدة.. ويصبح البحث عن بديل إنما هو تخدير للألم وتحايل على المشاعر لا يمكن أن يجيده إلا شخص قوي مصرّ على الحياة وعلى المواجهة..
 
 
 
بعد سنوات من اليأس.. وبعد إصرار.. قررت فجأة أن تلغي ذلك الإحساس بعد أن شعرت أن وجوده أصبح عائقا دون أن تحيا حياتها كما يجب.. فالأطفال يكبرون والعمر يمر.. وقد يحين وقت تصبح فيه الوحدة هي الكلمة الوحيدة التي تعرش فوق تفاصيل الأيام القادمات..
 
 
 
ابتدأت بتصفية وتنظيف بيتها وداخلها من كل ما كان له علاقة بحياتها السابقة.. فكرت أن في الأرض بشرا هم أحوج إلى تلك الأشياء العتيقة التي تحتفظ بها بلا سبب.. كانت تفتح صناديق الأمس وكأنها تفتح قبورا ضمت من الذكريات ما لم يعد يستوعبه وجودها الحاضر.. وراحت توزعها وتتبرع بها لتتخلص من كل شيء.. لم يكن الأمر سهلا.. وكانت قد اتخذت قرارها منذ مدة لكن تنفيذه والاستمتاع به كان لهما أن يأخذا منها ما أخذا..
 
 
 
الأهم أنها كلمتني اليوم وهي تضحك وتحدثني بفرح غامر عن حبها الجديد..!
 
 
صحيفة العرب
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد