الصمت إلى أجل غير مسمى - يمينة حمدي

mainThumb

26-08-2016 07:10 PM

 قد يكون الصمت أداة علاجية على جانب كبير من الأهمية للعديد من الأمور التي ليست على ما يرام في حياتنا الأسرية، ففاصل قصير من الصمت من شأنه أن يجعلنا نعيد النظر في مواقفنا وتصرفاتنا المتسرعة، ويمنحنا طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولنا، مما يساعدنا على حل مشاكلنا بعيدا عن وتيرة حرب الأعصاب والانفعالات والاتهامات التي قد تدفعنا إلى اتخاذ قرارات متسرعة نظلم بها أقرب الناس إلينا.

 

كما أن الصمت أمام الشريك الغاضب أو المتوتر، يمكن أن يجعله يراجع نفسه، ويفهم أن صمت الآخر ليس ضعفا أو اعترافا ضمنيا بالخطأ، بقدر ما هو بدافع الاحترام له والرغبة في عدم تأزميم الوضع أكثر مما هو عليه.
 
والأهم من هذا كله أن الشعور الأكبر بالسيطرة على مجرى الأمور في حياتنا يعقب الصمت المؤقت، الذي قد يؤتي ثماره في شكل حلول لا مشاكل أكثر.
 
ولكن الخوف كل الخوف من الصمت إلى أجل غير مسمى، الذي يغيّب الكلمة الرقيقة وهمسة الحب وحديث الذكريات الجميلة ويولد التنافر والتباعد، بل ويصيب أعتى المشاعر بالفتور والبرود.
 
ولعل هذا من أكثر أشكال الصمت التي أصبحت سائدة، اليوم، بعد أن تحولت العلاقات العائلية والاجتماعية في ظل التكنولوجيا الرقمية إلى رسائل نصية ومكالمات صوتية، واختزل الحوار الأسري في بعض الصور والرموز، بدلا من التحدث المباشر والتواجه وجها لوجه، والقيام بجرد حساب يومي للعلاقة، من أجل الحد من العوامل التي تسبب الضغط والتوتر.
 
للأسف الطفرة الرقمية جعلتنا نعوض مشاعرنا الحقيقية بتعبيرات نرسلها في ما بيننا، دون أن يكون هناك حيز زمني دوري للالتقاء، يشيع فيه الحب والتسامح والرغبة في التكفير عن الأخطاء، والتطلع المشترك إلى المستقبل.
 
لقد فقد أفراد الأسرة فن الحديث عن مشاعرهم، فتباعدت مشاغلهم ورغباتهم وتطلعاتهم، ولم تعد لهم اهتمامات مشتركة، بعد أن أصبحوا كما لو أنهم غرباء تحت سقف واحد، لا يمتلكون لغة للتواصل والتوادد، وعاجزين عن التقمص العاطفي للعلاقة الدموية التي تجمعهم، بسبب هوسهم بالتكنولوجيا التي كانت تقرب البعيد فأصبحت تبعد القريب.
 
قد يكون الفيلسوف الأميركي، جون كامبل، محقا بقوله إن من “أحد الاحتمالات التي سنواجهها هو برمجة جوانب حياتنا العاطفية، حيث نعتمد فيها اعتياديا على أناس آخرين لننال عطفهم ودعمهم”، فبدلا من أن يفضفض أفراد الأسرة الواحدة عن خلجات أنفسهم ومشاكلهم اليومية لبعضهم البعض، يبحثون عن شخصيات افتراضية يبوحون لها بأدق تفاصيل حياتهم، وهي في أغلبها وهمية.
 
لقد جعلتهم الأجهزة الرقمية يتخلون عن اللمات العائلية والمسامرات الجميلة، ويبيعون أثمن قيم اكتسبوها من أجدادهم بأبخس الأثمان، وينعزلون في أبراج عاجية.
 
وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يكون “الصمت من ذهب”، فعواطف الناس لا تتطور في الصمت، بل من سياقات الحديث المختلفة، وبالتحاور لا بالصمت نستطيع أن نتعرف على مزاج الآخر وسلوكه، ونكتشف العديد من الأمور عن حياته وشخصيته.
 
 
صحافية تونسية مقيمة في لندن


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد