التصنيفات العالمية للجامعات نتاجات بامتياز، لا غايات وآمال - أ.د - سميح الكراسنة

mainThumb

26-09-2016 03:22 PM

نظرا للازدياد المضطرد في أعداد مؤسسات التعليم العالي، والتنوع في أساليب التعليم – سواء أكان عن قرب أم عن بعد- سيما وأننا في عصر قائم على التنافسية والانفتاح والقياس والتقويم، في زمن أضحى التطور فيه متسارعاً في مجالات العلم والحياة، والارتقاء التكنولوجي يفرض سمة الكثرة والتغير والتنوع على ما يسمى بحاجات سوق العمل سواء أكان على الصعيد المحلي أم الإقليمي أم العالمي. 
ونظراً لذلك كله، ظهر ما يمكن تسميته بحركة التصنيفات العالمية للجامعات في غير منطقة أو قارة من العالم، إذ أضحت هذه التصنيفات من المؤشرات الواقعية التي يمكن الاستدلال بها على مكانة الجامعات، ومدى تطورها وجودة مخرجاتها، مما يعنى أن تصنيف أي جامعة قد يعكس حقيقة صورتها وسمعتها وجودة التعليم فيها.
 فلم يعد التنافس والتسابق بين الجامعات على تحقيق أفضل المستويات لمعايير تلك التصنيفات واقعا حتميا فحسب، بل إن التنافس يبدو كبيرا وإن كان خفيا بين الجهات القائمة على هذه التصنيفات نفسها؛ وذلك من خلال إعداد المعايير وتحديث بعضها من فترة إلى أخرى، أو من حيث تغيير استراتيجيات عملها، وآليات تقييم مجالات العمل في الجامعات. مما حدا بالقائمين على بعض هذه التصنيفات إلى الابتكار والإبداع بأساليب التسويق لمؤسساتهم ومنتجاتهم من خلال: عقد المؤتمرات والورش والمسابقات والبرامج المتعددة والمتنوعة وتطوير أدوات القياس للأداء المؤسسي لمختلف أجزاء وحيثيات الجسم الجامعي، وقد وجدت هذه المؤسسات كثيراً من الرواد والزبائن لها من جامعات الأرض شرقها وأوسطها وغربها.  ولذلك كان لهذه التصنيفات دور كبير في نشر روح التنافس بين الجامعات، حتى إن بعض الجامعات أضحت تغير عقيدتها وفلسفتها من أجل تحقيق المعايير المطلوبة، وقد أحدثت هذه التصنيفات إرباكاً لبعض جامعات القطاع العام على وجه الخصوص في كثير من دول العالم، خاصة تلك التي تعاني من الضائقة المالية...
عموما،حديثي هنا ليس لتشخيص مؤسسات التصنيفات أو تقييم معاييرها وآليات عملها، أو لإصدار الأحكام عليها، فهذه ليست مهمتي الآن -مع تحفظٍ شديدٍ على بعض ذلك، ناجم عن تأملي ومعرفتي المتواضعة بآليات العمل والأنشطة والممارسات التي تصدر عن بعض مؤسسات التصنيفات-إلا أنني أَعُدُ معايير بعض هذه التصنيفات محفزا للعمل والتميز وعاملا مهماً  في تجويد المخرجات  والعمل الجامعي بشكل عام، فلا ننكرها ولا نقدسها.!! 
إن ما أصبو إليه أعمق من ذلك، وهو التأثير الأدوم، والنتاج الأرقى والأعظم من تحقيق معايير لتصنيفات متعددة الأشكال والألوان. ورأيي أن التصنيفات ليست غاية تُنظَّم من أجلها الأعمال في الجامعات وتوضع لها الخطط وتسخّر لهاالإمكانات، وترصد لها الميزانيات -وللأسف فإن بعض المسؤولين يريدون التصنيف بقرار-بل إن الغاية التي نسعى إليها هي جودة الإنسان(الخريج)، لأن الاستثمار الحقيقي في بلدنا لأي مؤسسة تعليمية هو الإنسان، سواء  أثناء الدراسة أم بعدها، وهذا هو الأهم لأي تصنيف قطعا. فالخريج هو الغاية؛ الخريج الذي يمتلك الكفايات التخصصية والمعرفية والإدراكية والأدائية والوجدانية والقيم الشخصية المتميزة التي تؤهله لأن يكون منافسا في أي سوق عمل يحل به، وكل حسب مجاله المعرفي، وحقله التخصصي. 
وتأسيسا على ذلك، فإن الجهد الحقيقي  يكمن في تهيئة وإعداد وتجهيز جميع مدخلات الجامعة من أجل تفعيل وتوفير أفضل بيئات التعلم بأرقى العمليات والتفاعلات بين جميع  المدخلات( بدءاً بالمدرس والطالب وانتهاءً بشكل الحدائق والمناظر الجميلة داخل أسوار الحرم الجامعي، وجميع عناصر بيئات التعلم الأخرى) ليكون الناتج  عنها الجودة الحقيقية التي تتجسد حتما في نوعية المخرجات (الخريج) وتميّزها، وفي التربية نقول إن المدخلات ليست هي الطالب فحسب، بل محورية المكانة هي التي تختلف بين الطالب والعناصر الأخرى في المدخلات، والقاعدة هي أن جودة التعلم من جودة التعليم. 
وفي نظرة تحليلية إلى معايير التصنيفات العالمية لجميع المؤسسات التي تتبنى طرح هذه التصنيفات نجد غالبية هذه المعايير تشترك بنفس السمات والمتطلبات، فغالبية التصنيفات تأخذ بالحسبان معيار الطلبة، ومعيار السمعة الأكاديمية، ومعيار أعضاء الهيئة التدريسية، ومعيار البحث العلمي، ومعيار الخدمات الإدارية وغيرها. ومن أجل أن تتميز الجامعة ويرتقي عملها، وتحقق أفضل مواصفات لخريجها(منتجها)، وتحقق بذلك معايير التصنيفات العالمية المختلفة، بأفضل مستوى -دون أن تكون المعايير هي الغاية-بكل قوة وانسيابية واقتدار لابد من توفير قيم حقيقية، تصاغ حول كل واحدة منها استراتيجية مؤسسية ملزِمة لجميع العناصر الإنسانية العاملة فيها، حتى يعرف كلٌّ مسؤوليته ودوره وتأثيره في تحقيق غايات الجامعة أياً كانت. ومن هذه القيم:
الشفافية والنزاهة: تحتاج الجامعة لإزالة جميع أشكال عدم الثقة والضبابية والشك بين جميع العناصر الإنسانية فيها؛ بنظام من التواصل والاتصال المفتوح الواضح يتأكد الجميع من أن الجميع يقومون بالأدوار المنوطة بكل منهم ويعرفونها بوضوح، بحيث تكون التوقعات واحدة من قبل الجميع لأي قرارات أو تعليمات. فالشفافية لا شك تبعد أثر الهوى الشخصي والغموض الذي يتجسد في سلوكيات كثير من الأطراف الإنسانية داخل الجامعة الواحدة خاصة الهواة من صناع القرار فيها... فكثيرون لا يعرفون ماذا سيحدث غدا لهذه الجامعة أو تلك، لأن في كل زاوية من زواياها بؤرة لا يُعرف لمن تخطط وبمن تكيد..وما الأثمان التي ستدفع، والمكاسب التي ستقبض.
التحفيز: تتجسد هذه القيمة بتحفيز عمل جميع العناصر الإنسانية في الجامعة، من رأس الهرم إلى أسفله. إن التحفيز سلاح الإنجاز، ونظام الحوافز ليس بالضرورة أن يكون ماديا(مع أهميته وأثره) بكل تأكيد بل معنويا بامتياز. لأن الأصل خلق دوافع ذاتية التوجيه، محركها الضمير والحرص على الجامعة بكل رغبة وحماسة، والحقيقة أن هذا لن يتأتى إلا من خلال تكامل منظومة قيم أخرى. وعلى سبيل المثال، كيف سيتشكل لدي حافز وأنا –كعضو هيئة تدريس-أعلم أن لا عدالة ولا شفافية ولا نزاهة في توزيع الامتيازات بين الزملاء، أو حتى الواجبات، أو إظهار بعض المسؤولين البراغماتية والمنفعية الذاتية والأنانية، أو التحيز، أو حتى تجاهل حقوق الآخرين. 
 الدقة والإتقان في التنظيم: تتصل هذه القيمة بجميع مفاصل الجسم الجامعي، وأهمها تنظيم الأدوار ودقة تنفيذالأعمال، واتقان تنظيم سجلات ووثائق وبيانات الجامعة التي تشكل تاريخها المفتوح والمتصل، وسهولة الوصول إليه، والدقة في تنظيم ملفات الإنجازات والإبداعات والاختراعات، وآليات عرضها، وتقديمها محليا وعالميا، وكذلك التعريف بالجهات المسؤولة عنها داخل الجامعة. كما تحتاج الجامعة إلى تنظيم فكرها وأفكارها من خلال صياغة أهدافها الاستراتيجية بكل واقعية وموضوعية لكافة محاور عملها وخططها التنفيذية بإطار من تنظيم المسؤوليات والأوقات، ومؤشرات الأداء ومعايير تقييمهاحتى يعرف الكل المطلوب من الكل.
البحث العلمي: لابد من تعظيم قيمة البحث العلمي ورعايته بشكل يفتح المجال بكل حماس ودافعية أمام الجميع، فرسم استراتيجية بحثية واضحة للمؤسسة تمكن الطلبة وجميع أعضاء الهيئة التدريسية فيها من النشر العلمي في أرقى المجلات العالمية، بل والرغبة في النشر قبل ذلك. إن عمل الجامعة على رسم استراتيجياتها البحثية، وفتح مجالات الدعم والتشاركية مع جميع القطاعات الخاصة والعامة الداخلية والخارجية ذات العلاقة، بتنظيم واضح للجميع سيؤدي إلى رقي بالجامعة وبأعلى المستويات.
 التسويق: أضحى العالم قرية صغيرة في عصر أَلبست فيه العولمة ثوبها بكل ألوانه جميع جوانب حياة الإنسان، وأصبح الجمال فيها لمن يصل إلى الآخر بشكل أسرع وأجمل، وتحتاج الجامعة إلى البحث والتقصي عن أفضل استراتيجيات التسويق، لتُظهر الجامعة أفضل فنونها الجمالية لما تريد أن يراه الآخر أمام جمال الآخرين. ويبقى التساؤل: بماذا تسوق الجامعة نفسها؟ 
الجواب:إن العناصر التي تسوَّق في مجال التصنيفات العالمية كثيرة، منها: المخرجات (الخريج): كيف تتابعه الجامعة، وكيف تجسد علاقتها به، وكيف تتواصل معه، وكيف تساعده بالحصول على عمل، وماهية نشاطاته، ومكان عمله، وإلى أي مؤسسة عالمية دولية ينتسب؛ البحث العلمي: أين يُنشر ومن يستفيد منه، ومن يموله، وكيف تعرضه الجامعة على من لا يعرفه، وماذا تقدم الجامعة للبحث العلمي، وكيف ترعاه، وأشكال دعمها له، والاستراتيجية البحثية، وتسويق البحوث الخارجية والداخلية محليا وعالميا؛ أعضاء الهيئة التدريسية: مؤتمراتهم، إنتاجهم العلمي، اختراعاتهم، إبداعاتهم البحثية والتدريسية، نشاطاتهم الخدمية المختلفة، ورتبهم العلمية، كيف تحفز علاقاتهم الخارجية وكيف تتابع هذ العلاقات؛ الطلبة: من هم الطلبة، ومن أي البلدان، وما هي نشاطاتهم ودور الجامعة في تحفيزهم وتشجيعهم، إبداعاتهم وكيفية نشرها وتسويقها؛ التكنولوجيا، كيف تفعَّل التكنولوجيا وكيف توظَّف في التعليم،وفي التواصل، ومواقع الجامعة المختلفة، والمواقع الخاصة بأنشطة الكليات والأقسام  وأعضاء الهيئة التدريسية، وطبيعة العناية بها، وهكذا بقية الأنشطة الصادرة عن الجامعة..... ولذلك يعد التسويق طريق الوصول إلى قلب الآخر وعقله بالتالي إلى قراره.
الانتماء للجامعة: هي من أعظم القيم المحفزة وأكثرها قوة وتأثيرا على العمل والإنجاز والرغبة في تحقيق النجاح والتميز في جميع الأعمال للجامعة، وبالرغم أنه ليس المجال هنا للحديث عن أهمية القيمة وحقيقة أثرها بقدر ما هو حديثنا عن كيفية تعظيم هذه القيمة وتعزيزها في نفوس المنتمين للجامعة (وهذا هو واجب جميع أصحاب القرار في الجامعة). 
إن من أكثر السبل تأثيرا وأهمية للانتماء وفي تشكيل معانيها العملية وسلوكاتها المميزة في مؤسسات التعليم الجامعي هي توافر منظومة قيم أخرى، يشعر بها العاملون ويلاحظون صفاتها سلوكا واقعا من الجميع داخل الجامعة، خاصة صاحب المسؤولية فيها -مهما كانت هذه المسؤولية وشكلها وحجم تأثيرها-، ومن هذه القيم العدالة والمساواة، والحرية بأشكالها، والإخلاص، وتغليب مصلحة الجامعة على المصالح الشخصية، والوفاء بالواجب لها، لا من أجل إرضاء الهوى أو تزلف لأشخاص. وكذلك قيمة التسامح بين جميع العاملين مهما كانت الأخطاء والخلافات والخلفيات الشخصية، تسامحا يحارب استراتيجية تصفية الحسابات، والانتصار للذات، أو الشلة، لأن الجامعة أقوى من الأشخاص، وأوسع من الشلل الضيقة، ويحكمها النظام والخطط الاستراتيجية، لا يحكمها الهوى والشخصنة، فلا تُختزل عظمة الجامعةوحجمها الكبير بشخصية مسؤول لا يعرف هو متى سيكون خارجها، ولا بشلة تشل حركة الانتماء عند جميع العاملين. فالانتماء لا يمكن أن يكون بوجود المرجعيات والشلل والنحل والملل، والتصنيفات للأشخاص، إذا إن التصنيف الوحيد الذي يجب أن يتمتع به الجميع ويتبناه هو الانتماء للمؤسسة بذاتها، هذه القيمة العظيمة التي يجب أن تكون هدفا غائيا ومطلبا استراتيجيا لكل مسؤول عن مؤسسة مع جميع العاملين معه. لأن النتيجة هي الإخلاص والوفاء للجامعة (كلٌّ حسب موقعه).
 ومنظومة القيم التي تحقق الانتماء هي ذاتها التي ستشكل القناعة الكاملة والإيمان الراسخ عند كل من ينتمي للجامعة بضرورة الجد والعمل من أجل رفعة الجامعات والحرص على رقيها والمحافظة على مكتسباتها وتاريخها وإرثها العلمي والثقافي والفكري والإبداعي، لأن الكل معني– كلٌّ حسب موقعه-بالمشاركة بوضع الخطط ورسم السياسيات للجامعات والمؤسسات التعليمية والالتزام بتنفيذها، وتضافر الجهود والإخلاص في العمل، حيث لا تميز ولا تصنيفاً راقياً للجامعة من غير تحمل كامل للمسؤولية وتكامل شامل للأدوار بين منتسبيها. ولأن من أهم صفات الجامعة هي الرعاية للإبداع والتميز والإنجاز، فالمسؤول الأول في الجامعة يبدع، ويخلص، ويظهر الانتماء في عمله وعدالته ونظرته وتعامله مع من حوله... وهكذا بقية العاملين في دوائر الإدارة والعمل والقرار، إلى أن نصل إلى الجهد الجماعي التكاملي المخلص والعمل المؤسسي الناجح القائم على معايير ضبط السلوك (القيم) العام...وبالتالي فإن نقاء السرائر وتوجيهها، وضبط الدواخل لهو الطريق المستقيم السليم لإنارة الظاهر وإسباغ الجمال والقوة عليه.
وإن لهذه القيم دوراً جوهرياً في دخول الجامعات إلى أرقى التصنيفات العالمية، والحصول على أعلى المراكز بكل قوة واقتدار سيكون تلقائيا ونتاجا واقعيا حتميا بامتياز، كما سيقود ذلك أيضا إلى تفوق مستمر في أي تصنيف عالمي، وهذا لا شك سيتأتى بعد توفير كافة مستلزمات العمل الأخرى التي تتطلبها التصنيفات وغيرها من بنية تحتية ومتطلبات مادية ضرورية للعمل على مستوى الجامعة بكافة أجزائها. فالتصنيفات نتاجات لا غايات.......
حمى الله مؤسسات وطننا ورعى الله مسيرة الارتقاء بها بجهود كل المخلصين الأوفياء المنتمين-وهم الغالبية-لأردن القيم والحضارة والتقدم والمحبة والسلام...


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد