كنز الخليفة عبد الله التعايشي - الصادق الرزيقي

mainThumb

22-10-2016 10:06 AM

(أ) قبل سنوات .. ذكرنا هنا إحدى مرويات واعتقادات الأستاذ الكبير عبد الله زكريا إدريس ، حول كنوز سلطنة الفور وسرقتها بواسطة المحتل الإنجليزي بعد دخول حملة هدلستون الفاشر عام1916 م وما تلاها من أعوام عقب استشهاد السلطان علي دينار، وبدأب إنجليزي محموم كان البحث جارٍ طيلة سنوات الحكم الاستعماري عن بقية المجوهرات والذهب والفضة والمقتنيات الثمينة والهدايا التي كانت ترد للسلطان علي دينار ولمن سبقه من أسلافه سلاطين السلطنة، من الأستانة عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية، ومن الحجاز وليبيا ومصر وغيرها من الأمصار المختلفة ، ويعتقد عبد الله زكريا جازماً أن الإنجليز عثروا على تلك الكنوز الثمينة وأخذوها إلى خزانة الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس .   وفي ثنايا ما يحكيه عبد الله زكريا بكل اهتماماته بالتاريخ والسياسة والجغرافية وكشاهد عصر على حياة جده القاضي إدريس مفتي وقاضي سلطنة الفور وصديق السلطان علي دينار، أن المستعمر الإنجليزي فعل ما كان يفعله كل الغزاة والطغاة عبر التاريخ عندما يحتلون بلداً ويقهرون أهله، يسلبون كل ما تقع عليه أعينهم من كنوز وخيرات، ويضعون أياديهم الدنسة على ممتلكات المهزومين، فقد نهب المستعمرون الغربيون عبر قرون طويلة كل ثروات البلدان التي استعمروها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وبنوا بها أوروبا الحالية وشادوا نهضتها بما أخذوه من الغير، وحتى الحرب العالمية الثانية تروي روايات موثَّقة عن حالات النهب والاستيلاء على الثروات الثمينة، وتذكر ملفات الحرب العالمية الثانية السرية، قصص ومعلومات عن أطنان الذهب التي نهبها الأمريكيون وهم سكارى بشرعية المنتصر من خزائن ألمانيا الدول الحليفة لها وذهبوا بهذا الذهب لبلادهم التي كانت تعاني من اقتصاديات منهارة بسبب الحرب، وفي حرب العراق الأخيرة واحتلاله نهبت ثروات العراق وأرصدته من الذهب ومقتنيات وآثار تاريخية لا تقدر بثمن على الإطلاق وهذا هو ديدن البغاة على مر الأزمنة .
 
(ب)  بالأمس القريب، فتح بحاثة سوداني ذو تعمق واهتمام كبيرين، وله إلمام واسع بما خُفي من التاريخ السوداني وما طُمِر في الأضابير والملفات القديمة للمخابرات البريطانية والسلطات الاستعمارية التي اغتصبت بلادنا وخربتها من العام1898 م حتى الفاتح من يناير1956م، وفتح ذهني وأشار الى الاهتمام بما اعتبره من مدونات التاريخ السرية للمخابرات البريطانية في السودان خاصة في السنوات التي أعقبت سقوط الدولة المهدية، وأثار حماسي وشهيتي للانتباه والالتفات إلى حقائق تاريخية وجرائم ارتكبت في حق بلادنا، تتساوى مع تلك الجريمة التي حكى عنها عبد الله زكريا عن كنوز سلطنة الفور . يقول الأخ الباحث الكبير (بشير أحمد محي الدين) إن الجيش الإنجليزي الغازي، عقب دخوله أم درمان بعد معركة كرري مباشرة وخروج الخليفة عبد الله محمد ود تورشين من عاصمته، وجه قائد الجيش كتشنر ونائبه ونجت باشا،و كل عيونهما واهتماماتهما وفرق التفتيش الخاصة المكونة من ضباط المخابرات البريطانية المصاحبة للحملة والجيش، للاستيلاء على كل مقتنيات بيت الخليفة عبد الله وما يسمى بــ (كنز الخليفة) والبحث عن أية مفقودات أو معلومات تشير إلى هذا الكنز المهم، ولم يكن الإنجليز يبحثون بالطبع عن وثائق أو مكاتبات أو تقارير، بل كان الاهتمام كله منصب على الأموال والمقتنيات والكنوز والذهب والفضة وكل ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه .
 
(ت) وتفيد المعلومات كما جاء في تقارير أعدتها المخابرات البريطاينة ما بين الأعوام 1898 و1903 م وأهمها تقرير رقم (60) في ملف كتب عليه سري للغاية تحت عنوان (كنز الخليفة عبد الله) ، أن أول من تم ألقاء القبض عليه في هذه المهمه هو الخادم الشخصي للخليفة عبد الله التعايشي، ويدعي عبد الله وهو صبي من الأحباش قبض عليه في القلابات في فترة حروب المهدية مع الحبشة وأتى به حمدان أبو عنجة للخليفة نظراً لأهمية الأسير ومكانته فهو من أقارب ملك الحبشة آنذاك، فاستخلصه الخليفة لخدمته لما للأحباش من خصائص تميزهم دون غيرهم في الخدمة وحسن التدبير، وأسلم الفتى على يد الخليفة وتم ختانه وحسن أسلامه، وقضى سنوات في خدمة خليفة المهدي، وكان من بين الذين بقوا في بيت الخليفة ولم يشارك مع جيش المهدية في معركة كرري ولم يرافق الخليفة . قام ونجت باشا باستجواب الفتى الحبشي (عبد الله) ويوجد نص الاستجواب بكامله في وثائق المخابرات البريطانية وفي التقرير رقم (60) ويقع هذا الاستجواب العجيب في التقرير ما أسماه الإنجليز بـ(كنز الخليفة) في (550 ) صفحة ..!  ويبدو أن معلومات مهمة تم أخذها من خادم الخليفة وكاتم أسراره الخاص، قادت الى الكنز المتوهم أو الى بعض منه، كما توفرت معلومات مهمة للغاية عن المنهوب منه قبل وصول الجيش الإنجليزي الى داخل مدينة أم درمان واقتحام بيت الخليفة، حيث تشير المعلومات الى أن هناك صناديق وجدت فارغة وتم كسر أقفالها، وهناك مفقودات عديدة لم يتم التعرف عليها والى أين ذهبت، غير أن المعلومات قادت الى أسماء بعينها من الأسر الأمدرمانية يقال إنها استولت على بعض ما كان موجوداً في بيت الخليفة عند استباحته بعد أن تسامع الناس بخروج الخليفة ومن معه، ويصدق هذه المعلومات أن بعض من كنز الخليفة بأوصافه التي أعطاها الفتى الحبشي وجدت في ام درمان بينما كانت أجزاء كبيرة من الكنز تظهر في فترات متقطعة من تلك السنوات في انكلترا في منازل كبار ضباط الجيش الإنجليزي ممن شاركوا في غزو السودان، بينما ظهرت بعد ذلك بسنوات أجزاء منه في متاحف بريطانية.
 
(ث)  وحسب ما سجله ووثَّقه وترجمه الأخ بشير أحمد محي الدين وهو ينقب في ملفات المخابرات البريطانية ووثائقها المفرج عنها، عن تلك الأيام الكالحة في تاريخ السودان قبل وأثناء وبعد المعركة الفاصلة في كرري 2سبتمبر 1898م، وفي الملحق رقم (36) من التقرير رقم (60)  ، إن الكنز المزعوم هو عبارة عن عشرات الآلاف من الريالات (ريال أب صدر) و (ريال مجيدي)  و(85) أوقية من الذهب و(49) صندوق من الياقوت و(33) صندوق من الزمرد و (219) صندوق من الحجر وصندوق واحد من اللؤلؤ و(133) أوقية ونصف أوقية من الذهب الخام، و(158) من التبر، بالإضافة الى ( 3) صناديق من الياقوت كانت للبيع ومعها (3) صناديق من الزمرد و(3) صناديق من الماس وصندوق واحد من الماس عيار 27 قيراط . وجاء في التقرير أيضا ًأن هناك صناديق أخرى كانت بحوزة الأمير يعقوب جراب الراي وجدت خاوية، بالإضافة الى معلومات مسجلة عن حجم الأموال التي صرفت على الحملات العسكرية وتجهيز جيش الدولة المهدية لشراء الذخائر والبنادق من ماركة (رامجتون) وأحزمة الكتف لذخائرها، بالإضافة للذرة وقوت الجيش وتشوينه وقِرب الماء والرماح وعيدانها. فمثلاً، توجد معلومات على هذه الكيفية ( 50,000 ريال أب صدر و105,000 صرفت في شراء 256,000 قربة مياه وأزواج حقائب و4000 حزام كتف لذخيرة البنادق رامجتون وشراء ذرة لحملة محمود ود احمد وشراء 250 مخلوفة و600 جراب ذخيرة للملازمين و1396 حوية و30 جمل مع سروجها وشراء مواد بناء وأكثر من 50 قنطار من  البن . وتوجد تفاصيل مثيرة وغريبة في نوع المصروفات التي كانت تصرف من بيت المال أو خزنة الدولة من الصرف المركزي من قمة الدولة المهدية على حيث توجد في التقرير مصروفات لا تختلف عن المصروفات الراهنة الدولة الحديثة منها الصرف على العمل السياسي فقد كان الخليفة يصرف على بعض زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم ويوزع الأموال لكسب الولاء وتوحيد الجبهة الداخلية ويعمل على تقوية الجيش وأجهزته الأمنية والعسكرية .
 
(ج) مما يجدر ذكره في التقارير البريطانية عن تلك الفترة ، أن هناك إشارات واضحة عن حالة الفوضى والاضطراب التي سادت ام درمان وكيف استبيح بيت الخليفة ونهب خاصة من المتعاونين مع الجيش الغازي من السودانيين الذين مدوا البريطانيين بالمعلومات المهمة التي مهدت الطريق لقادة الاحتلال الإنجليزي من العثور على مفقودات المهدية وثروة الدولة وما يسمى بـ(كنز الخليفة) . ومن الطرائف .. في التقرير البريطاني هو ما ذكر عن شخص اسمه الأمير (قمر الدين) وهو أحد أمراء المهدية استأمنه الأمير يعقوب على كنز الخليفة ومقتنياته وهداياه، وطلب منه الإتيان ببعض (الفقرا) ورجال الدين من الصُلاح، لـــ(تحويط ) الكنز ومنع نهبه وسرقته والحيلولة دون وصول أيدي الإنجليز إليه!.. (ح) نحتاج الى زيارة جديدة لتاريخ المهدية وتاريخ تلك الفترة ويجب أن يهتم باحثونا أكثر بدراسة الوثائق البريطانية ومعلوماتها فهي مظان لا يرقى إليها شك لأنها مكتوبة من ضباط إنجليز الى قياداتهم في لندن، وفيها رصد وتحليل دقيق، ما أحوجنا إليه اليوم حتى نربط الحاضر بالماضي .. فالتاريخ سجل الزمن لأحداث الشعوب والأشخاص والأمم ..
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد