تحدي التغيير والمسؤولية الملقاة على عاتق المثقف - د. عبدالله سليمان درادكه

mainThumb

01-12-2016 12:09 PM

عند الحديث عن " تحدي التغيير" فنحن نتحدث في واقع الامر عن الثقافة، حيث يشير تايلور في نص متداول بكثرة إلى الثقافة على أنها "ذلك المركَّب الكلي الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وأي قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضواً في مجتمع". لذا أحببت ان اتناول ذلك التحدي من خلال الحديث عن الثقافة كحاضنة للدين والسياسة. إن كلمة " ثقافة " ترتبط بشؤون الفكر عامة، رغم انها لا تشير إلى مضمون واضح ومحدد، ولابد هنا من الإطلالة  على ذلك المعنى الخاص الذي يستعمله علماء الأنثروبولوجيا، خاصة الإنجلوساكسون منهم، فالثقافة عندهم تدل على"مختلف المظاهر المادية والفكرية لمجموعة بشرية معينة تشكل مجتمعاً بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، وعلى العموم فإن كلمة "ثقافة" في الاصطلاح الأنثروبولوجي تعني ما نعبر عنه نحن اليوم بـ"حضارة". إنها ليست البناء الفكري فحسب، بل إنها أيضاً السلوك الفردي والمجتمعي وما يرتبط بهما من تقاليد وأعراف وأخلاق، وقد يضاف إلى ذاك كله أدوات العمل والإنتاج (الجابري، محمد عابد، " مفهوم الثقافة وقاموس الخطاب العربي المعاصر" ، موقع من الانترنت). 
 
ولما كان لكل أمة من الأمم خصائص وميزات تميزها عن غيرها، حيث ان الاختلاف والتمايز هو الذي يحقق القيم المختلفة، أصبحت كل أمة تسعى لإثبات نفسها وترسيخ عقائدها ليس فقط من خلال ابراز مجالات التميز والتمايز فيها؛ إنما من خلال تهميش نظائرها من الأمم، وذلك بما يحقق الهوية الاجتماعية بصورة عامة والتي ينبثق عنها بالتالي الهوية الفردية والتي تكون محملة بمعتقدات وآراء وقيم الهوية الاجتماعية للأمة بشكل عام. ان الاختلاف الحاصل بين الامم هو ما يفسر اختلاف الثقافات وتعددها، والتي تأتي حصيلة الاختلاف والتنوع بين معتقدات ومبادىء تلك المجتمعات. وحين نتحدث عن مبادىء وقيم ومعتقدات وعادات وتقاليد نحن في الأصل نتحدث عن عناصر الثقافة ومكوناتها؛ لنقف عند حد الحرف فنقول: إن المثقفون، وهم الفئة الواعية التي أكسبتها ثقافتها موضوعية التفكير، ووضوح الرؤية، والقدرة على التحليل والمحاكمة المنطقية؛ مما يجعلهم في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب الفاسدين، ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين، إن المثقفين هؤلاء، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس. ومن هنا نستشف بعض جوانب المسؤولية الملقاة على عاتق المثقف، في تصحيح تلك الصورة والتي يتطلب، تعرية الواقع المؤلم الذي تعيشه الجماهير كمقدمة أساسية، وتركيز مظالم هذا الواقع في بؤرة شعورها تركيزاً يجعلها تحيا هذه المظالم كجزء من ديمومتها، كما يتطلب رسم طريق النضال الثوري الهادف لنسف هذا الواقع والشروع في بناء أوضاع جديدة تتحقق فيها آمال وأهداف الجماهير.
 
وفي إطار مرجعيات العولمة الأساسية الموجهة إلى الشرق كمقدمة للانقضاض على هويته وثقافته، يقول نزيه الشوفي: جاءت العولمة كنظاما عالميا جديدا، تسعى إلى نسف عدوها رقم واحد وهو الهويات القومية التي تنظر إليها على أنها الصخرة التي تقف في طريق انتشار تلك القرية الكونية المنفلتة من حبال الماضي، وحضورها في الواقع الراهن؛ تأسيسا لمستقبل منسلخ عن تاريخه، أي نسف كل الهويات عدا هوية واحدة هي هوية السوق واستبضاع، الإنسان الرقم أو السلعة، فهذا للأسف هو محور فلسفة العولمة القائم على التشيؤ والانقراض والتنميط.‏   إن نظام العولمة الراهن يستهدف إقصاء الماضي عن الحاضر والحاضر عن المستقبل، عبر تقديم الأداة التكنولوجية المتطورة لنسف هذا الماضي وقطع الجذور.  وهو الجانب الذي ركز عليه صموئيل هنتينغتون في طرحه لصدام الحضارات أو صراعها، أي صدام الحضارة الثالثة مع عدوها الأساسي وهو القوميات، ووضع صيغة تفسيرية للصراع في القرن الواحد والعشرين قائمة على العامل الثقافي كمحور للصراع.  ولذلك استخدم هنتينغتون مفهوم الثقافة بمعنى الحضارة (والحضارة لديه تعني الثقافة) وذلك لينسف الماضي كله بقيمه ومعتقداته ورموزه وأفكاره. ويشير هنتنغتون إلى أن حضارة الغرب ستبقى الأكثر قوة، محتفظة بحالة جيدة وهي تدخل الألفية الثالثة. لذا فإن القضية الأساسية بين الغرب وباقي العالم هو التنافر بين جهود الغرب لتكريس عالمية الثقافة الغربية وبخاصة أمريكا، وبين الحضارات الأخرى التي تؤكد على خصوصيتها الثقافية والحضارية. 
 
إذن؛ الصراع آت لا ريب فيه بنظر هنتغتون، وسيكون صراعاً ثقافيا وليس إيديولوجيا أو طبقياً هذه المرة، ويأخذ طرقا مختلفة من أبرزها الغزو الثقافي عن طريق العولمة. وعلى هذا الأساس، فإن "الحشد الهائل من الإعلام الأسود، دون سلاح مقاومة اجتماعي وثقافي، يحدث الآن حالات التشيؤ والانهيار، وذلك بغياب القيم التي تخترقها أجهزة الإعلام الأسود وثقافته، غياب الأخلاق القيمية، لتجزئ المجتمعات العربية وبالتالي إقامة فجوة بين الأعلى والأدنى من فئات المجتمع، وانتشار حالات الفساد والإفساد، سواء بالسيولة المالية الهائلة المتاحة في عدد من المؤسسات العربية، أم بالتقنيات المستجلبة دون ضبط لعملية الاستفادة منها واستخدامها (الشوفي، 2005). وإذا كانت الثقافات الوطنية تمثل وجهة نظر أمتها على الساحة الدولية، فإن الثقافة الصناعية تحاول غزو هذه الثقافات على الساحة الوطنية بالتركيز على عقل الفرد وروحه داخل حدوده، أي تنفذ إلى الجذور.
 
وأختم بما قاله الجابري:" ليس الغزو الثقافي أو الاختراق الثقافي (بتعبير محمد عابد الجابري) إلا مرحلة غزو واختراق للنفوس بعدما غزت القوة الأبدان والأجساد، والهدف من إخضاع النفوس إنما هو "غزو العقل، تكييف المنطق، توجيه الخيال، صنع الأذواق، ترسيخ نوع معين من القيم، تكريس إيديولوجيا خاصة، إيديولوجيا الاختراق"، كمرحلة لا مناص منها لتوسيع الفضاء الإنتاجي وتكريس نموذج "النظام الاستهلاكي" المهيمن، أي النظام الاستهلاكي الغربي المقدس للسلعة وللمستهلك، وهكذا نقرأ لجاك ديلكور: "إن ما يميز العصر الراهن هو ظهور نوع جديد من الغزاة: المجموعات المالية والاقتصادية عوض الدول "المحلية". هؤلاء الغزاة الجدد لا يتبنون نشر حضارة أو دين أو ثقافة أمة من الأمم، بقدر ما يعترفون بأن عملهم إنما هو غزو لا أقل ولا أكثر، مدللين على ذلك بالقول: إذ لم نفعله نحن فسيفعله غيرنا".
الدكتور عبدالله سليمان درادكه
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد