رفقا بأمي الموصلية - ريم قيس كبّة

mainThumb

07-12-2016 09:17 AM

محال أن أترك لهم بيتي.. وإذا أتت منيّـتي تحت أنقاض جنونهم فإنما الأعمار بيد ربّ كريم”.. وبقيَتْ تتمتمُ بسكينة العارف أن الله معنا ولن يخذل أرض الأنبياء.
 
حتى اللحظة الأخيرة كان كل شيء ممكنا ومقبولا ولا لبس فيه.. بيد أنها ما إن نظرت إلى شمعة ميلادها وسمعت الجميع ينشد مهنئا حتى غالبها الدمع فانفرطت ببكاء سخين.. “لا تبكي يا غالية إنه يوم ميلادك..”.
 
وكيف لي أن أحتفل وكل أهلي مازالوا هناك؟.. عالقين بين مطرقة الأوباش وسندان التحرير.. محتجزين قاب قوسين أو أدنى من موت وفناء.. زاد يومهم الرعب والارتجاف، وتتقاسم دقائقهم أصوات المفخخات وهدير القذائف وعصف الانفجارات والأحزمة الناسفة.. حياة تفتقد كل ما يمت للحياة ببنت صلة ما خلا ذلك النفس الذي يصارع كي يبقى.. والترقب لخلاص يبعث على التمسك ببقايا أو فتات أمل..
 
فرج قريب يا رب.. فرج قريب.. لا حيلة لنا سوى الدعاء.. بيتي الصغير الدافئ مازال هناك.. وحده الله يعلم ما حل به.. استودعته الله أمانة لعلي أعود فأراه صامدا مثل أهل الموصل وشجرها الوارف وبنيانها الشامخ وأرضها المعطاء.. رباه لقد نأيت بأطفالي خشية الفقد وكان المرض قد هيّأ لي سببا للفرار من جحيم تلك الأيام.. لكنني لم أكن لأعلم أن جحيم القلق أقسى وأشد مضاضة من مواجهة
 
الخراب..
 
إخوتي مازالوا هناك.. مصرين على البقاء.. جمعوا أطفالهم وشيوخهم ومن تبقى من جيرانهم في قبو بيت جدي الكبير.. فقد شاء قدرهم أن يكونوا للغزاة دروعا بشرية تحميهم من المحررين.. احتموا ببعضهم وأغلقوا باب القبو دون أولائك الغرباء الذين يرطنون بكل اللغات التي لا تعرفها شعاب أهل الموصل.. اختار إخوتي باطن الأرض خباء بعد أن اجتاحت المكان جرذان غادرت حفرها واحتلت الشوارع والبيوت وسطوح العمارات..
 
فرج قريب يا رب.. فرج قريب.. فأمي الحبيبة مازالت هناك.. أمي يا رب.. رفقا بأمي.. فهي لم تبرح قرآنك والصلاة لك.. أمي التي حفظت القرآن منذ طفولتها تسامحا ومحبة ولم تكن لتفهم يوما ما الذي يعنيه قرآن ذلك البشر العجيب.. “من أي جحر طلعوا إلينا ومن أي فج من فجاج الأرض؟”.. هكذا كانت تتساءل وهي ترفع عينيها وتخاطب ربها الذي لم تعرف سواه وكيلا.. كانت تبسمل وتحوقل وتحسبن وتتشهّد وهي حائرة ضائعة لا تستوعب ما يدور.. كنت أتوسلها أن تترك المدينة وتأتي معي ريثما يأذن الله لنا بالعودة.. لكنها رفضت حتى النقاش في الأمر.. “محال أن أترك لهم بيتي.. “محال أن أترك لهم بيتي.. وإذا أتتْ منيّـتي تحت أنقاض جنونهم فإنما الأعمار بيد ربّ كريم”.. وبقيَتْ تتمتمُ بسكينة العارف أن الله معنا ولن يخذل أرض الأنبياء..
 
وكيف لي أن أحتفل؟.. وكيف لا أبكي؟.. الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران وزملاء المدرسة وأولاد الحارة كلهم مازالوا هناك تحت رحمة من لا رحمة لهم.. لا خبر يبلّ رمق الملتاع ولا بارق يضيء ظلمة القلق الحالكة.. الأخبار غامضة متضاربة وأهل الإعلام وتجار الحرب يتاجرون بنا ونحن لا حول لنا ولا قوة ولا نملك إلا الدعاء..
 
قفزت الطفلة الأصغر إلى حضن أمها وقالت “لا تبكي يا ماما تمني أمنية قبل أن تطفئي الشموع”.. فتمنت أن تسمع خبرا يريح الفؤاد.. وقال الولد الأكبر “يا أمي.. في العام القادم سنحتفل بعيد ميلادك في بيتنا في أم الربيعين..”.
 
صباحكم أرض تعود لأهلها..


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد