في بلاد الأندلس‎

mainThumb

27-01-2017 08:58 PM

 حدثنا عيسى بن هشام قال: حللت الأندلس أيام ملوك الطوائف، وكانت تهديدات الاسبان على الحدود الشمالية قد وصلت حداً مقلقا، فتوجهت الى قرطبة مبتعدا الى الجنوب لعلي أهنأ بالأمان ويصفو لي الزمان، ولأجل ذلك كنت متحرّزا أن لا أختلط بأحد ممن ينتقدون الحكام، ويشغبون على الإمام..

 
فقضيت أياما لا أخرج من بيتي حتى لا ألتقي أحدا، ولكن الملل قد بلغ بي حدا.. فعاتبتني نفسي على الاحجام وشجعتني على الاقدام، فخرجت يدفعني الملل ويكبحني الخوف، حتى شق ثوب الخوف أذان العصر، فشاعت الحياة في أطرافي، وقادني الصوت الإلهي الى المسجد القريب، فغسلت بالوضوء نفسي وعقلي وأقبلت الى الصلاة متوجها الى ربي ناسيا كل ما حل بي.
 
ولم أتوقف عن الصلاة النافلة حتى أقيمت الصلاة المفروضة، فانتظمت بالصفوف، وزاد بي الخشوع وأنا وسط الجموع، حتى وصلت الصلاة الى التمام وسلّم الامام.
 
ولما انفتل من صلاته وأقبل على دعاته، وصاروا اليه  يزحفون، وهم يتخافتون، فعلمت أنهم له أنصار إذ أحاطوا به كالسوار... فهممت أن أخرج، ولكني كنت في موقف محرج، فقد كنت محجوزا في دائرتهم، فآثرت الجلوس مجاملة لا احتياجا للعلم.
 
وعندما صمت المريدون وتعلق نظرهم بالشيخ، اضطربت حدقتاه، وتنحنح ومسّد لحيته الطويلة الشمطاء، ثم سمى الله وأثنى عليه، وصلى على سيدنا محمد، وترضى عن الصحابة، ثم تلى قوله تعالى:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ صدق الله العظيم.
 
ثم قال: انا لا أخالف المفسرين المشارقة، ولا أرفض تفسيراتهم، ولكني أحب ان أوجه هذه الآية توجيها يناسب ما نحن فيه من فُرقة، وشدة التعصب لكل فِرقة،  وما يعترينا من تنازع للمناصب وتآمر يحدث بين الشلل الحاكمة! متناسين ما يعتري الناس من ظلم وظيم، وجوع وقر...
 
 وهنا اشتد الزحف، وتركزت العيون، وأمسك الكل بالذقون.
 
وتابع: توجهنا الآية الى أن كل دولة فيها شركاء متشاكسون فاشلة! فعندما يكون للحاكم محاسيبه، وللزوجته محاسيبها دون علمه، والعم كذلك والخال أيضا له محاسيبه!! وكلٌ متصل بفِرقة من الفرق يعمل لتحقيق طموحه المادي والنفوذ الحكومي له ولعصابته. والشعب يئن من الطفر وكلهم يخطط للسفر!! والعدو على الحدود ينتظر أن يطيح بما بنى الجدود..
 
 أما الدولة الأخرى.. التي لها حاكم واحد وقرار واحد واتجاه واحد تحكمها المؤسسات ويضبطها القانون هي الدولة المطلوبة،  التي تحمي شعبها من الجوع والفقر، ومن القراصنة المارقين، وتكون أقوى في الوقوف بوجه الأعداء الذين بنا محدقين.
 
فانتفضت كأن كهرباء مستني وتذكرت مخاوفي، فأيقنت أني مأخوذ بجريرة هذا الشيخ، فنضت من مكاني، متعثرا بأرداني، ولم أصل الباب، حتى حضر الشباب، وقالوا قف أنت معتقل! فقلت وما هو ذنبي؟! أنا غريب لا أعرف دربي، ولا أعرف أحدا هنا، فلم يلتفتوا إليّ واقتادوني أنا وكل الحلقة، واصبحنا بنفس الفلقة، وعند انتظامنا في الزنزانة، أعاد الشيخ تلك الرطانة، وهو يجلس مساء على الدكة الزنزانة فأنشأ يقول:
 
        قف دون رأيك مجاهدا..... إن الحياة عقيدة وجهاد.
 
فرحت اليه أعاتبه وأطراف الحديث أجاذبه، ولم أطل التفرس في سحنته فقد كان –والله- هو شيخنا أبو الفتح الاسكندري.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد