في الرياض .. مناسبة تاريخية للإنقاذ - إياد أبو شقرا

mainThumb

14-05-2017 02:52 PM

 في أواخر الحرب اللبنانية (1975 – 1990) اكتشف اللبنانيون حقيقة كان طرفة بن العبد (ت 569م) الشاعر الجاهلي النابغة قد سبقهم إليها بأكثر من 1400 سنة، عندما قال:

وظلم ذوي القُربى أشدّ مضاضةً
 
على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
 
لقد اكتشف اللبنانيون، يومذاك، كل في منطقته الأحادية القيادة، المتجانسة طائفياً، أن الظلم الناتج عن شعور شخص ما أو جماعة ما بفائض قوة، وممارسة هذه القوة فعلياً، يسببان ألماً هائلاً للآخرين من أبناء عشيرته ومذهبه، لعله أسوأ من الألم الذي يلحقه العدو.
 
في تلك الحقبة، انهارت مؤسسات الدولة. وفي مناطق كثيرة انتصبت الحواجز الدينية والمذهبية تحميها أسلحة فئوية من مختلف الأنواع لمختلف الغايات. وبمرور الوقت، وتراكم الشعور بفائض القوة الذي كفله السلاح لحامله على حساب المواطن الأعزل بدأت الممارسات الفوقية. وفي حالات كثيرة ظهر النفور والتململ، اللذان انعكسا في انشقاقات داخل المعسكر السياسي والطائفي الواحد.
 
تقريباً حدث هذا حينذاك في مختلف المناطق اللبنانية. وهو مستمر اليوم في ظل هيمنة طائفية مسلحة بات معها كل المشهد السياسي، بمناصبه وأحزابه وشخصياته، مجرّد «ديكور» مسرحي لا يعني شيئاً على الأرض.
 
الواقع نفسه تعيشه «بقايا» كيانات عربية أخرى تمر بما مرّ به لبنان، وبالذات العراق وسوريا، بفعل «الظلم» الناجم عن الغطرسة وهيمنة فائض القوة. وهو يغدو - كما قال طرفة بن العبد - أكثر إيلاماً كلما كان مرتكب الهيمنة أوثق قرابة. أضف إلى ذلك أن هذه الظاهرة تخلق تبعات أكبر وأخطر ما لم يتنّبه لها العقلاء في الوقت المناسب، ويدركوا أهمية احتواء عوامل الاستفزاز ونوازع التسلّط وإغراء التوجّه نحو إلغاء الآخرين.
 
وفي هذا السياق، أمامنا عنصران مترابطان لا استقرار للمنطقة العربية ولعالمنا الإسلامي ما لم يجرِ التعامل معهما بحكمة وتبصّر، وحزم حيث تدعو الحاجة. الأول هو التطرّف بكل أشكاله، الديني والمذهبي، وكذلك القومي والعرقي... إلخ. والثاني هو تعامل الأكثريات مع الأقليات، بحيث لا يؤدي الظلم إلى تبرير أخلاقي أو إنساني لأي تصرّف مسيء لمصالح الجانبين.
 
الهوية العربية والإسلام هما هويتا الأكثرية (قومياً وثقافياً ودينياً) في العالم العربي الممتد من سلطنة عُمان إلى المغرب وموريتانيا. هذا صحيح، بلا جدال. غير أن هذا الكلام ينطوي على تفاصيل مهمة ما عاد يجوز إهمالها. وكذلك ما عاد مقبولاً أن تنشأ أجيال جاهلة بفضائل «الوحدة في التنوّع» والمصلحة المشتركة لمكوّنات مجتمعاتنا بالتعايش. وإذا كانت التقنيات الحديثة قد سهّلت التواصل والتفاعل، ووسائل النقل والسفر سهّلت الهجرة وتبادل الزيارات، وبرامج التعليم قد اخترقت الحواجز الجغرافية والثقافية، فإن أي تجاهل لما يحيط بنا كعرب ومسلمين بصبح ضرباً من الانتحار.
 
نحن كعرب ومسلمين لا نعيش في كوكب آخر. وبعد أيام قليلة ستستضيف المملكة العربية السعودية قمة غير مسبوقة، عربية - إسلامية - أميركية، تؤكد أهمية إنهاء ما بدا خلال العقود القليلة الماضية وكأنه «حوار طرشان» بين العرب والغرب من ناحية، وبين الإسلام والغرب من ناحية أخرى، ... وربما بين بعض العرب وبعض المسلمين أيضاً من ناحية ثالثة.
 
القيادة الأميركية، التي هي في النهاية قيادة قرارها مؤسساتي وليس شخصياً، كشف فوزها في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) عن خلل كبير في نظرة المجتمع الأميركي إلى الإسلام. وكذلك كشفت أعمال الإرهاب التي ارتكبها عرب ومسلمون في أوروبا خلال السنوات الأخيرة خللاً بالخطورة نفسها في فهم بعض المسلمين للغرب والعلاقة معه.
 
ثم إن فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب جاء في أعقاب تبلور قناعة خاطئة، بالذات داخل أميركا تبنّتها القيادة السابقة (2009 - 2017)، جوهرها أن ثمة إسلاماً جيداً يمكن التفاهم معه تمثله إيران. وفي المقابل، هناك إسلام آخر متطرّف بطبيعته لا طائل من الحوار معه.
 
هذه القناعة الخاطئة أثمرت الاتفاق النووي الإيراني، وشلّت أيضاً أي دور أميركي كان من الممكن أن يوقف انزلاق المنطقة العربية نحو التطرف بفعل مشروع إيران الذي استنهض رد فعل معاكساً بين مكوّنات الشعب نفسه في سوريا والعراق واليمن. ومن ثم، مع تمكُّن إيران من تحقيق اختراقات استراتيجية داخل الجسم العربي، تارة تحت ستار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وطوراً من أجل كسر شوكة أميركا في المنطقة، اختار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما غضّ الطرف والسكوت عما يحصل. وكانت ذريعة أوباما على وجهين؛ الأول - كما سبق - أن «إسلامها» جيد بخلاف «إسلام» غيرها. والثاني أن خطابها العدواني لفظاً موجه للاستهلاك المحلي... وبالتالي، فهي لا تسعى لتهديد إسرائيل أو مصالح أميركا.
 
في هذه الأثناء، كان المتآمرون على مستقبل المنطقة يرحّبون بأن ينتج التطرف تطرفاً مضاداً يبرّر الخوف الفئوي، الذي يسوّغ بدوره الاستقواء بقوى خارجية، ... وصولاً إلى جعل التقسيم حلاً يجسّد الحق بالدفاع عن النفس.
 
اليوم، تحديداً في سوريا والعراق، هذه هي خلفية إعادة رسم الخرائط الحالية لخدمة أي جهة... إلا أهل البلد. لهذا يجري التبادل السكاني بين الفوعة وكفريا من ناحية والزبداني ومضايا من ناحية مقابلة. وتهجّر ضواحي دمشق بالجملة، ليلحق أهلها بأهالي أحياء حلب وحمص.
 
باسم ضرب «داعش» دمّرت مدن الأنبار، والآن الموصل، تماماً كما حصل مع حمص وحلب والزبداني والقصير. مع أن المواطن العادي، الذي عاش ومن قبله أبوه وأجداده لعشرات بل مئات السنين في مكان ما، لو سئل - بمعزل عن الخوف - لما اختار أن ينزح عنه ليعيش على الإعانات.
 
بالمختصر، لا مصلحة لأي مجتمع بتبادل سكاني على أساس فئوي أياً كانت هويته بعد تدمير المدن وزرع الأحقاد وجريان أنهار الدم. ولكن، عن جهل أو عن علم، سار متشدّدون ومضلَّلون في ركاب مشروع «التطرف لتبرير التطرف، والعنف لتبرير العنف». وشيئاً فشيئاً، سيطر حاملو السلاح والمتاجرون بالشعارات، وخرج من الساحة وانزووا بعيداً أصحاب إرادات التغيير السليم، والمدافعون عن حقوق الإنسان، ومصلحة المنطقة وأهلها.
 
*نقلا عن "الشرق الأوسط"


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد