اللعب واللغة

mainThumb

14-09-2017 08:46 PM

هل يصحو الغدير في الليل ليتأفف ويقول من هذا الذي انعكس وجهه على صفحتي؟ أم أنه ينام هادئًا وقد انعكس خيال قمر مجنح على صفحة وجهه، فلا يقول شيئًا ولا يضجر، ولا يملك لغة أو تفكيرًا، فليس لديه الخيار أصلًا. 
 
ماذا لو كان الإنسان مثل نبع أو غدير أو نهر تنعكس على صفحة وجهه الأشياء؟! هل كان سيقبل بأن يطمس أحدهم معالم وجهه، أن يبدو بصورة قمر مثلًا أو صورة إنسان غيره؟! لقد خلق الله الإنسان على هيئة متفردة وحتى إن تشابه اثنان، فمن المستحيل أن يتطابقا في التفكير، ميزنا الله بالتفكير وبكون عقولنا لها ملامح مختلفة، فقد يحب إنسان ما لا يحب آخر، ولكن هل رأينا مرة غديرًا يحبّ الجوري ولا يحبّ الأقحوان؟! 
 
لقد حثنا الله عزّ وجلّ على التفكر وإعمال العقل من خلال كتاب "القرآن الكريم" أي من خلال اللّغة، ومن الجدير بالذكر أنّ مسألة التفكير لدى الإنسان ليست من السهولة بمكان، حيث تحتاج إلى تعمق ودراسة مطولة وبحث جاد، وإن كنت هنا أعرض شيئًا من هذا فما هو إلا نقطة من بحرعميق.
 
إن طريقة تراكم معارفنا وخبراتنا وتشكيل عقولنا موضوع يستحق الاهتمام والبحث، وخلال مسيرة حياتنا يتطور تفكيرنا وتتوسّع ثقافتنا؛ ونبدأ بعين الناقد النظر إلى الموروثات الخاطئة، والعادات المغلوطة، ولكن سيكون من المنصف أن نتحدث أيضًا عن السلوكيات الإيجابية التي تعلمناها من محيطنا، مثل: الأمثال الحَسَنة التي تحتوي على تركيب يوصل الفكرة بطريقة رائعة، والألعاب الجيدة التي تحفز الفكر والعقل، وغيرها...
 
سأتناول هنا لعبة تمّ ذكر فكرة فلسفية تنطبق عليها في رواية عالم صوفي "التي تستعرض تاريخ الفلسفة والفكر منذ القدم"، ويتحدث الكاتب فيها على لسان فيلسوف عن تقسيمات العناصر الموجودة في هذه الدنيا، وهي حسب أرسطو مقسّمة إلى: حيوان، نبات، معادن، رغم أنه يتحدث عن لعبة أخرى "تلك اللعبة التي نخرج فيها شخصاً من الجلسة إلى الممر، لنتفق على شيء في غيابه، يكون عليه أن يحزر  ما هو عندما يعود"(1)؛ إلا أنني وجدت أكثر لعبة مناسبة لهذه الفكرة هي لعبة (حرف، اسم، نبات، حيوان، جماد، بلاد)، التي كنا نلعبها حين كنّا صغارًا؛ حيث تمنح هذه اللعبة "الاجتماعية" القدرة على التفريق بين هذه الأشياء عن بعضها، ومن ثم الفصل بينها وبين الإنسان القادر على التفكير والإحساس، فهل أرسطو هو مخترع هذه اللعبة؟ وهل كنا نتوقع أن لعبة لعبناها في صغرنا ترجع إلى فكر فلسفي؟ وهل ساهمت بشكل ما في مخزوننا اللغوي؟
 
 إلى جانب التفكير وتحفيز العقل تضيف هذه اللعبة المزيد من المفردات إلى مخزوننا اللغوي، وتحفز العقل على استحضار الكلمة مجردة (كتابة)، و(صورة محسوسة) في مخليتنا، ثم لتجتمع كلّها "الحرف، الإنسان، الحيوان، النبات، الجماد" في الخانة الأخيرة «البلاد»؛ الأمر الذي يضيف لدينا أيضًا أسماء بلدان جديدة أي معارف جديدة، كما أن القاسم المشترك بين كل هذه التقسيمات هو "الحرف"، الذي كان البداية لاختراع اللغة والكتابة من قبل الإنسان، وقد اهتمّ القلقشندي (756-821 هـ) في "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" بالكتابة كوسيلة اتصالية واعتبرها من أشرف الصنائع وأرفعها. وهي -حسب رأيه- كعمليّة اتصاليّة تتكون من أربعة عناصر:
 
1. مادتها ألفاظ يتخيلها الكاتب.
2. تصوُّر من ضم بعض الألفاظ إلى صورة باطنة تامة في نفسه بالقوة.
3. الخط الذي يخطّه القلم، ويقيّد به تلك الصور.
4. أن تصير صورة محسوسة ظاهرة بعد أن كانت صورة معقولة باطنة". 
 
ويؤكد هذا المعنى قول الشاعر:
 
العلمُ صيدٌ والكتابة قيده            قيّد صيودك بالحبال الواثقة
 
وإضافة إلى كون اللغة وسيلة اتصالية، ترتبط أيضًا بقدرة الإنسان على التفكير، وتميزه عن الكائنات الأخرى، "إذ ليس ثمة نوع آخر من المخلوقات يمارس قصدًا نقل المعرفة أو المهارات لأعضاء آخرين من بني جنسه، مع أنّ بإمكان المخلوقات الأخرى بالطبع التعلّم بملاحظة بعضها بعضًا. ولكن سواء أكان التعلّم عند بني البشر نتيجة التربية أم كان ذاتيًا، فإنّ العمليّات المسؤولة عنه تتطلب تمثيل عدد قد يكون لا حصر له من الأعمال والعلاقات المتبادلة تمثيلًا فكريًّا في غياب هذه الأعمال ذاتها. وليس القصد هنا أن نقول إنّ هذه الأشياء ممثلة فكريًا في اللغة، بل إنها ممثلة في المساحة العصبيّة المخصصة للعمل الذي أوجدته اللغة ومن أجل اللغة في الأصل. بعبارة أخرى، لو لم نكتسب اللغة لما استطعنا تمثيل الأشياء"(3).
 
وما يدفعني إلى كتابة هذا المقال تراجع مستوى اللغة العربية وانحدارها لدى كثير من أبناء المجتمعات العربية، وخاصّة الجيل الجديد، رغم ما وصلنا إليه من تطور على المستوى التكنولوجي والتقني، وظهور ألعاب إلكترونية متعددة الأشكال، ابتعد الأطفال عن الألعاب الحركيّة واللغويّة، بل أصبح بعضهم مدمنًا على الألعاب الإلكترونية، فليتَ تلك الألعاب تعود إلى جانب الإلكترونية حيث أنّ بعضها له فوائد، أو نحاول تقديم ألعاب بمحتوى لغوي يثري لغة الأفراد، قد تكون هذه اللعبة (حرف، اسم ..) إحدى الوسائل لكنها بالطبع ليست الوسيلة الوحيدة.
 
 
______________________________
(1) جوستاين غاردر، عالم صوفي، ترجمة حياة الحويك عطية، ص 122.
(2) صالح أبو إصبع، الاتصال الجماهيري، ص 50.
(3) ديريك بيكرتون، اللغة وسلوك الإنسان، ترجمة الدكتور محمد زياد كبة، ص 106-107.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد