قصتان قصيرتان .. العورة وعنبر المجانين

mainThumb

08-10-2017 01:53 PM

"١"
قصة  مستوحاة من الواقع 
 
العورة وعنبر المجانين
 
خرجت المطلقة مريم من بيتها تبحث عن رزقها  في سوق الخضار،  بعد أن شيعت صغارها وهم يتأبطون حقائبهم المدرسية المثقلة بمستقبل مجهول تتحادفه المصائب بعد أن تركها أبو الأولاد في عهدة الزمن المر دون أن يكترث بهم أو يسأل عنهم، حتى انقطعت أخباره، ورغم ذلك كان يسعدها أن صغارها يضحكون فتتفتح زهرة النور في وجهها الجميل رغم شحوبه.
 
تبضعت مريم بما تيسر لها، ثم غادرت سوق جدة المركزي بحمولتها إلى مستقرها في ساحة القرية، وشرعت  هناك تدلل على بضاعتها بصوت خافت، ولكن الطرشان من حولها لم ينتبهوا إليها.. فماذا تفعل وصوتها يختنق بين  أصوات الباعة التي أخذت تجأر مستحوذة على كل انتباه فتشعر حينذاك بالخيبة والامتعاض.. وتهش عن وجهها ذباب الخيبة، تستيقظ روحها وصور أبنائها وهم يتضورون جوعاً تداهم تفكيرها المتأزم، لم تنتظر هي بدورها، فالوقت يمضي وهي محاصرة بسوء الحظ، ومرتبكة من كونها مطلقة منبوذة في قرية تأنق منها ذلك وتعتبر صوتها عورة تخالف الشرع والتقاليد.
 
قال لها إمام المسجد:
 
"فقط  اعرضي بضاعتك في السوق دون أن تنادي فتنكشف عورة صوتك المحفوف بجمال عينيك اللتين يحتل بريقهما الشيطان من خلال فتحة البرقع، والأرزاق يا ابنتي على الله، حتى القطط تلتقط  رزقها من حشاش الأرض.. وتذكري بأن صوتك عورة".
 
فردت عليه موضحة كيف أن القطط إذا ما تضورت جوعاً، ويئست من العثور على نصيبها من اللحم المتعفن في المزابل فإنها بلا ريب ستلتهم ما تبقى من بضاعتها الكاسدة قالت:
بضاعتي تبور يا شيخنا" 
 
فيبتسم في وجهها منبها:
 
" ستؤجرين على إطعامك القطط لوجه الله، وانتظري  رزقكم الذي في السماء المهم لا تفضحي عورة صوتك"
 
    اليوم قررت أن تفجر صوتها في وجه الخوف، جأرت بصوتها عالياً، وانتبه المتسوقون إليها، فنفضت  حظها العاثر عن  وجهها الذي أورق بنصيبها من الرزق أثناء عدها للنقود، حتى غمرها طنين الوشاة، وهم يشيرون بأصابعهم إليها كأنها اقترفت ذنباً لا يغتفر، ليداهمها رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صارخين فيها:
 
" ألا تعلمين بأن صوتك عورة، أتجاهرين به بكل وقاحة!! تباً لك من مطلقة لا رادع لها في زمن الرياء! ألا تخجلي من نفسك! أليس لك أهل يحاسبونك! إرحمي هؤلاء الرجال من الباعة الكادحين الذين أرغموا على سماع صوتك الناشز.. إنما بذلك تنشرين الفاحشة" قالوا ذلك بحقها وهي تحاول كظم غيظها عسى بأحد الموجودين يهب لنصرتها، وخاصة من أولائك الذين تمنوا رضاها عارضين عليها الزواج ذات يوم وقد صدتهم  بذريعة أنها سخرت حياتها لصغارها "عجبي" إذ أخذتها سورة غضب متأجج إزاء شماتة المتزاحمين من الوشاة والمتفرجين، حتى راحت تصرخ فيهم بأعلى الصوت:
 
"اطعموا أولادي إذن !" ثم راحت تكيل لهم الشتائم  الخارجة من أعماق قلبها المكسور، كانت تصرخ بأعلى الصوت، فتحرره بأقصى ما تستطيع، في غمرة مقاومتها لرجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم  بجبرونها على دخول صندوق السيارة.
 
ويوم محاكمتها المشهود كان مغموراً بضجيج صوتها كأنها اختارت أن تقدد لحمها وتبيعه للمارة نكاية بهم " هذا خياركم يا منافقون!"
 
فانتهى بها الأمر كما تمنت؛ لذلك كانت وهي في عنبر المجانين غارقة في الصمت، كأنها تخلت عن صوتها.. هذه العورة التي يتمت صغارها مرة ثانية،  وحرمتهم من قلبها الشفوق. فكيف يصمت الغضب وتسكن الريح! ألا يبدو هذا مخالفاً للطبيعة!؟  لكن صمت مريم كان يحجب في أعماقها هديراً عميقاً كأنه بركان خامد لا يلتقط صوته الا التواقون إلى غناء  الشلال المتحرر من القيود..
"٢"
 
قصة من الواقع
 
"أبو العبد يسرق الكهرباء"
 
أبو العبد سجن لأنه ضبط متلبساً بسرقة الكهرباء كونه عاجزاً عن تسديد ما تراكم عليه من فواتير،  أما وساطة المختار لدى المحافظ فقد تعثرت مساعيها رغم عرضه لشهادة الجيران التي أصرت جميعها على أن أبناء أبو العبد  كانوا منشغلين بالدراسة فالامتحانات على الأبواب،  وبدون الكهرباء  سيدمر مستقبلهم..
 
في الوقت نفسه يفرج عن أكبر سارق للكهرباء في تاريخ الأردن، وهو بالمناسبة رجل أعمال يمتلك مزرعة واسعة، قام بتزويدها بالكهرباء المسروقة، طبعاً المختار قليل الحيلة لا يمكن مقارنته بالمتنفذ المعروف  الذي حرك معارفه لنجدة رجل الأعمال الذي خرج من الحجز وفمه ملقوم بلوح من الشوكلاتة، وقد أعد وليمة ضخمة في مزرعته على شرف المتنفذ الذي ابتسم وهو يلقم فمه بالسيجار الكوبي بينما أفواه الضيوف ببطونهم المندلقة كانت منشغلة بمضغ  لحم الضان الذي ازدانت به المناسف الدوارة،والمشربة بمرقة الجميد المعتبرة، كانت أشداقهم كأنها قطاعات من الحديد وهي تعمل حتى في هرس العظام.. وكان بوسع المتنفذ أن يهمس في أذن رجل الأعمال الذي لم ينقطع عن الضحك وإطلاق النكات جزافاً وهو محاط بأصدقائه الذين تندروا بقصته" الجلسة تحتاج  لحلويات"  
 
فرد عليه بخبث:" وإذا شئت فهناك أكثر من ذلك فالسهرة ما زالت في أولها! فقط انتظر حتى تخلوا المزرعة من الضيوف" فربت المتنفذ على كتفه ضاحكاً والشهوة تتصاعد في أعماقه معبراً عن رضاه..
 
وقبل أن نتهم المختار بالتقاعص عن نجدة أبي العبد، لا بد من إنصافه، وقد تمزقت عباءته من الحرج  الذي  أصابه من جراء الأبواب التي أوصدها الشيوخ من المتنفذين في وجهه، بينما أخذته الفطنة آخر المطاف لمقابلة المتنفذ ألذي أنقذ رجل الأعمال من ورطته"أكيد بأن قلب الرجل مليء بالخير، ومشكلة أبي العبد لا بد وتحل بمكالمة صغيرة من لدنه" هذا ما دفع المختار لطلب المساعدة من المتنفذ  لإزالة الكرب عن صديقه قبل تقديمه للمحاكمة بعد يومين، فقيل له بأن الرجل مسافر خارج البلاد. دهش المختار من الرد، وأخذ يضرب كفاً بكف "لا حول ولا قوة إلا بالله" إذ كان المختار يعلم بأن المتنفذ ما لبث منشغلاً بسهرته في مزرعة رجل الأعمال المفرج عنه.. هذا ما أكد عليه قريبه وهو يعمل نادلاً في المطعم الذي أعد الوليمة، ويخدم عليها.. ورغم ذلك فكر المختار بإعادة الكرة من جديد بإلحاح من أم العبد وبناتها اللائي لم يتوقفن عن البكاء وهو يطمئنهن بابتسامة شفوقة:" بصير خير"..


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد