ذكرى رحيل عرفات .. تظهير الذكرى وتغطيس اللغز - عدلي صادق

mainThumb

16-11-2017 02:18 PM

 شهدت غزة حشدين غامرين يومي الخميس 9 نوفمبر 2017 والأحد الذي أعقبه، إحياء لذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

 
بدأ الحشد الأول بتوجيه رسالة للمستوى الرسمي الفلسطيني، تؤكد رمزية عرفات وحيوية المجتمع الفلسطيني في غزة وولائه للحركة الوطنية الفلسطينية، فيما هو “يُعاقب” بذريعة حماس. وفي السياق كان ذلك الحشد الأول نفسه، يقرع الجرس ويذكّر بالفارق الذي ينبغي التركيز عليه، بين زمنين ورجلين وحاليْن للشعب الفلسطيني. بعدئذ جاء الحشد الثاني، كمن يدحض الأول في أسبابه ومقاصده بعد أن أشبع القائمون عليه الحشد الذي سبقه، ذما وتشكيكا وتحريضا، على طريقة محمود عباس ومن معه وفي غياب المؤسسات. وبالطبع اختار الجمهور ألا يغيب عن أي فعالية تُحيي ذكرى الرجل الذي أحبه الناس وائتمنوه على قضيتهم، سواء في القتال أو في مقاربات السلام.
 
لكن نظرة فاحصة لمعاينة الكلام الذي قيل عبر مكبرات الصوت، تدل على أن تظهير الذكرى لا يزال معادلا موضوعيا للتحوط على لغز موت عرفات وأسبابه وأدواته، وجعل الغموض عاملا مساعدا على المناورة في الاتجاهات الإسرائيلية والفلسطينية الداخلية. فمنذ الأيام الأولى للفقد، كان المستوى السياسي الفلسطيني، يميل إلى اختزال الحقيقة بأن إسرائيل هي التي قتلت الرجل بالسُم، وسمح لمن هم دون رئيس السلطة، بتكرار هذا الاختزال، دون الإشارة إلى وجوب البدء في تحقيق جدي لمعرفة كيف نُفذت الجريمة. أما رئيس السلطة، فلم يتطرق إلى الموضوع، لا بالاختزال ولا بالشرح الذي يعني ضمنا أن إسرائيل هي التي قتلت.
 
وبحكم دائرة الانتشار الشاسعة للفلسطينيين، وحتى لمنتسبي منظمة التحرير الفلسطينية، وبالنظر إلى حجم الغضب الشعبي وعمق إيلام الجرح وفداحة الغدر الذي طال رجلا جعل التسوية السلمية المتوازنة خياره الاستراتيجي؛ بدأت خلال السنة الأولى التي مرت على غياب عرفات ترتفع أصوات تطالب بتشكيل لجنة تحقيق وطنية، مهمتها أن تتقصى خيوط الجريمة ثم تقدم للفلسطينين رواية معززة بالبراهين، عن حقيقة ما جرى.
 
في ذلك الوقت كان المجلس التشريعي الفلسطيني لا يزال حيا يُرزق، فشُكلت لجنة بقرار منه ترأسها النائب عبدالجواد صالح، ولم تمنح تلك اللجنة وسائل الوصول إلى مفاتيح الإجابة عن أسئلتها، على مستوى العاملين في السلطة ومقر قيادتها المسمى “المقاطعة”. وبعد مرور عدة أشهر لجأ بعض رموز منظمة التحرير إلى محاولة تحريك المياه الراكدة، من خلال تصريحات صادمة. فقد سمع عضو اللجنة التنفيذية ورئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير فاروق القدومي، وهو يرسل عبر الأثير، اتهامات لا تخلو من حنق شخصي، تتهم عباس نفسه بالضلوع في الجريمة ومعه النائب محمد دحلان. وبالطبع لم يقدم القدومي بعدئذ، أي ملاحظات تبرر ذلك الاتهام الذي أحيل إلى ملف السجال والكيديات. لكن مجرد تشكيل اللجنة ظل مطلبا للمجتمع الفلسطيني، بمناضليه وقواه الاجتماعية وكل عناوينه. وبعد مرور سنة على الامتناع الرسمي الفلسطيني عن تشكيل لجنة للتحقيق في كيفية وصول السُم إلى عرفات؛ بدأت الأصوات الداعية إلى التحقيق تُسمع في الخارج. ففي الذكرى الأولى للرحيل دعا الراحل معمر القذافي، إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية، وتلته شخصيات عربية أخرى وازنة، كررت تلك الدعوة، لكي ينال عرفات ما استحقه رفيق الحريري بعد جريمة اغتياله. لكن اللجنة المبتغاة لم يُسمح لها بأن تتشكل، إلا عام 2009 أي بعد خمس سنوات، ووفق مقررات المؤتمر العام السادس لحركة فتح.
 
لا يختلف اثنان على أن “اللجنة الوطنية الخاصة بالتحقيق في ظروف استشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات” لم تكن ستظل قائمة لو لم يكن رئيسها توفيق الطيراوي، عضو مركزية فتح شديد الولاء للزعيم عرفات. وفي الحقيقة أدت اللجنة عملها بكفاءة بعد أن شكلت طواقمها ووضعت خطتها، وامتلكت القوة الأدبية والصدقية اللتين تساعداها على استدعاء من تريد سماع شهاداتهم، وعندما توصلت اللجنة إلى أن الاحتمال الأقوى الذي تدل عليه القرائن، هو أن يكون السُم الإسرائيلي قد وضع للرئيس عرفات من خلال طبيب أسنان، ثم أصبحت اللجنة بصدد مراقبة ذلك الطبيب على مدار الساعة قبل القبض عليه، وعندما حان وقت القبض عليه وُجد مقتولا في شقته.
 
بدأ تحقيق آخر لفك لغز موت الطبيب، وتتبع كل اتصالاته وعلاقاته، وجاءت النتيجة أن الخيوط والاتصالات تتجه إلى الجانب الإسرائيلي، وبالتالي يُرجح أن يكون الإسرائيليون هم الذين أجهزوا عليه بعد أن أدى دوره، لكي يتحاشوا أي ردود أفعال دولية تنشأ عن اعترافه الصريح عليهم. عندئذ انتهى التحقيق وأصبح في عهدة المستوى السياسي، الذي كان ولا يزال مطلوبا منه، أن يختبر مكانته الدولية من خلال محاولة الحصول على لجنة تحقيق دولية.
 
وللأسف، بذريعة التكتم على التحقيق، تُرك أمر النتيجة سرا، لكي يظل رئيس السلطة يناور مستفيداً من الغموض. ففي سياق الخصومة التي وقعت داخل فتح، اتهم عباس خصمه محمد دحلان بعمليات قتل، وقد أغضبت تلك الاتهامات ذوي الضحايا الشهداء أنفسهم، لأنهم يعرفون القتلة ويرفضون المتاجرة بدم أعزائهم في سجالات من هذا النوع. وعندما فشلت كل محاولات تلفيق اتهامات بالقتل، حدث في إحدى المناسبات أن ألمح عباس إلى أنه يعرف القاتل وسيفاجئ الجميع به، وصدمت لجنة التحقيق بما يقول وارتفع حاجبيْ توفيق الطيراوي استغرابا وصرح بما معناه أن لا أساس لما يقوله الرئيس، وترك الطيراوي للناس أن تستنتج بأن مأزق عباس في موضوع دحلان ومعسكر مؤيديه الكُثر، هو الذي دفعه إلى ذلك المنزلق اللفظي الذي سرعان ما تراجع عنه. فمن المفارقات التي أضحكت الجميع هو أن عرفات قضى في وقت كان عباس ودحلان في ذروة الصداقة والتحالف بينهما، وأن القدومي أشركهما في اتهام جزافي ظالم. لذا فإن معنى أن يكون خصم عباس هو المتهم، يجر على عباس نفسه أسئلة خانقة لن يجد جوابا عنها سوى الاعتراف بأنه كان يكذب.
 
ناصر القدوة، رئيس “مؤسسة الشهيد ياسر عرفات” رفض جعل دم عرفات موضوعا للسجال السخيف، وهو في الحقيقة ثرثرة من طرف واحد، لذا دعا عام 2013 إلى تشكيل لجنة دولية، واستعان بعمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك، للمطالبة بلجنة دولية. لكن العامل الفلسطيني الوطني لم يكن في مستوى العامل اللبناني الداخلي رغم أزمة لبنان المديدة. فلا عباس في قامة فؤاد السنيورة ولا النظام السوري المتهم بقتل الحريري في حجم إسرائيل، ولا التحرك على صعيد العلاقات الدولية بشأن ياسر عرفات، سيكون سهلا وناجحا مثلما كان بشأن الحريري الذي حصل على لجنة دولية. ذلك على الرغم من كون عرفات عاش كبيرا في وطنه وفي الإقليم والعالم.
 
 
كاتب وسياسي فلسطيني


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد