ارفع رأسك عاليا .. عندما تكون وطنيا - د عمر جعوان

mainThumb

16-12-2017 01:49 PM

قرات كما قرأ غيري كثيرون للمتنبي ، ذلك الشاعر الكبير الذي مرت قصائده على كل شاردة وواردة ، وكنت كلما قرأت له بيتا وقفت احتراما وتبجيلا للغته ومعانيه وغزارة الفاظه وحكمه ، لكني وقفت بطريقة مغايرة عندما قرأت له هذه الايام شطرا من بيت يقول فيه " ما شرفت باهلي ولكن شرفوا بي " ولن يختلف اثنان على فهم هذا الشطر الذي يعني ببساطة بان المتنبي يشرف اهله وليس العكس ، او يتشرف اهله بانتماء المتنبي لهم وليس العكس ، فاستوقفني الجزء الاول من المعني وهو انه لم يتشرفباهلهالذين كانوا سببا في وجوده لانهم في نظره على ما يبدوا ليسوا من سربلهبالشرف ولا بالعزة التي البسوه اياها ، واختلفت معه ايضا في الجزء الثاني من المعنى الذي يقول بانهم من يتشرف بابنهم لوضعة ومكانته وشرفه.
 
ونسي المتنبي ان مرجعية سموه وادبه العالي ترجع الى كونه عربيا متقنا للغته ومسلما منتميا لفكر وعقيدة شامخة يعتز المنتسب لها ، وانه يعيش واهله في وطن يتصف بالامن والامان والحرية والتطور والقوة والمنعة ، مما اتاح له تلك الحالة من السمو والشعور بالعظمة.
 
اذن فان مصدر العظمة والشموخ لدى الانسان مصدرها الانتماء لاهل يعتنقون  عقيدة عظيمة شامخة ، يفهمون مضمونها من لغة عظيمة يتحدثون بها في وطن عزيز يحميهم ويهيء لهم كل الذي يحتاجون اليه ليعيشوا حياة العزة والكرامة ويستكملوا امر ربهم في عبادته كا يريد.
 
ليس غريبا ان يكون الشاعر مغرورا ولكن الغريب ان يصل الغرور عند الشاعر او عند اي انسان الى هذا الحد ، لكن المتنبي المبدع اراد ان ان يعبر عن ذلك المفهوم في صدره من خلال الدعوة للانسان ان يسموا ويكبر ويتعاظم للدرحة التي يرى فيها انحناء الناس لتحيته اينما مر وظهر ، لكن التعبير خانه في ايضاح تلك الفكرة عندما قال او اخبر عن حالة يكبر فيها الانسان على اهله بالرغم من انهم هم والوطن واللغة والعقيدة من انجبه وجعل له تلك الهالة من العظمة.
 
وللاسف فقد تعلمنا في مدارسنا الاهتمام بالاسماء وتواريخ الميلاد حتى في الحقب المزدهرة من التاريخ ولم تركز مناهج التعليم في بلادنا على ما كان وراء عظمة الااسماء للاشخاص وحتى الممالك ، فكم مررنا باسرة فقيرة مغمورة ضعيفة انتجت عملاق ادب او علم او فلسفة او دين ؟ من منا يعرف ماذا قدمتاسرة ارسطو طاليس لابنها ليكون اسطورة الفلسفة حتى يومنا الحاضرعلى سبيل المثال ، ومن منا يعرف ماذا فعلت ام المتنبي او اهله في سبيل ان يتقن الحس بالاشياء وان يرى الطريق امامه مفتوحة ومعبدة الى المجدوالشهرة ؟ من منا وسع علمة الصورة الكاملة عن كثير من العظماء وعن علاقة عظمتهم بانتمائهم الاسري او العائلي والوطني؟ولاستكمال الصورة فان الناس والاهل والاقربون والعشيرة والقبيلة لا معنى للحديث عنهم بمعزل عن الحديث عن الوطن ، اذ لا تكتمل صورة الوطن ولا معناه من غير الربط بين الارض والناس الذين يعيشون فوقها ، بل ان مسوغات وجود الانسان على الارض هو العبادة ، ولا تكون العبادة بغير اعمار الارض وتوارثها ، اذا فالارض والناس والروابط بينهم هو الوطن.
 
ولعل الوطن والوطنية هما المصطلحان الاكثر بروزا في اوقات الازمات والشدائد ، وهما الموضوعان الاكثر سخونة واهمية هذه الايام خصوصا واسرائيل تتربص بالبقية الباقية من فلسطين، وتتربص بالاردن لتنفيذ فكرتها الشيطانية في زرع مفهوم الوطن البديل في ذهن الفلسطينيين والاردنيين والاسرائيليين .
 
ولذلك فلعل ماهو مطلوب من المواطن هذه الايام له صفة الخصوصية والاستعجال ، متطلب يعلو على كل الامور العنترية والتشبيحية والنفخ في هواء الانتماء بالمقلوب ، اننا في وضع يحتاج فيه الوطن ان يصمد بنا وليس ان نصمد به ، والوطن يطالبنا بان نحميه وليس ان يحمينا .
 
نحن العرب بعد سقوط فلسطين على عكس امريكا واوروبا وحتى روسيا ، فيكفي ان تقول في اي بقعة على الارض خارج امريكا انك امريكي حتى يقف لك سائق الباص اينما كنت وتفتح لك المحلات يوم الجمعة وتعطى المكان رقم واحد في طابور الطلبة الراغبين بالانضمام للجامعات ، وتعفى سيارتك من الضريبة ، ولا تسجن لفعل شنيع ، كل ذلك يقدمه لك الوطن القوي العزيز ذي الصيت والقوة ، وقبل ان نغادر صورة الوطن امريكا لا بد وان نقول بان الامريكان بنوا امريكا قوية وسخروا عقولهم وعقول غيرهم وسواعدهم وسواعد غيرهم واشتروا باموالهم وعلاقاتهم مصادر العزة والمنعة وحتى نفوس الكثيرين لجعل وطنهم قوي عزيز ، ثم استظلوا بظله واحتموا بحماه. 
 
وبما اننا لا زلنا في سيرة امريكا فلننظر كيف اعطت امريكا القوية العزيزة العزة والجاه لترامب المصارع الصغير هذه المكانة وهذه السمعة، ففي اي وطن غير قوي وغير عزيز لا يمكن لذلك ان يحدث حتى وان كان الشخص ذا اصول اميرية او وزارية وليس مصارعا يضرب على قفاه ليحصل على لقمة العيش. فعندما يصبح للوطن هيبة يحصل مواطنيه على ما يحتاجون اليه ليعيشوا وهاماتهم مرتفعة.
 
وراء العظمة في الدول العظمى اسباب كثيرة علينا ان نفهمها ونعرفها ونقوم بالواجب تجاهها، فالعقيدة واللغة والمواطنة الصالحة هي ما يعظم من شأن الاوطان والامم ، فلا حجم الدول ولا تاريخها ولا اسماء العئلات والقبائل فيها يمكن لها وسائل الحضارة والعظمة ، فالدنمارك وبلجيكا وبروناي وسنغافورة دول وامارات تصغر في حجمها الى درجة تفوق في صغرها حجم اي بلد من بلادنا ، وحتى عدد السكان فيها محدود كما ان ليس لها اصلا ميزة استراتيجية ولا جغرافية ولا تاريخية ، ولكن تكمن كل ميزاتها في شعوبها التي تنبع قيمتهم من شعورهم باهمية اوطانهم وعملهم الدائم على ان تبقى اوطانهم عظيمة ومرتفعة في السماء ليس نكاية باحد ولا استكبارا على احد ولا انتقام من حاضر او من تاريخ ولكن لمصلحتهم وعكرامتهم ومستقبل اولادهم ، فاهلها منتمون لها فعلا ، اي ان اهلها وطنيين.
 
والوطني هو المنسوب للوطن والمنتسب له وليس العكس ، الوطن العظيم يصنعه ابناؤه بما عندهم من مفاهيم واضحة وقوية تجاه العقيدة واللغة والارض، اي ان الوطن هو ما يعطي للانسان قيمته والانسان هو ما يبني قيمة الوطن وعزته .
 
لا بد من ان نتمسك هذه الايام بهذه المعاني والمفاهيم ، فالوطني هو الذي يتفهم هم الوطن ويتعامل معه على هذا الاساس ، الوطني هو الذي يفهم انه صانع لقوة الوطن وعزته ليكون هو بالتالي قوي وعزيز ، وللوطن حقوق على مواطنيه كثيرة ولا يحق الا لمن يقوم بواجباته نحو احقاق تلك الحقوق ان ينتمي بفخر لهذا الوطن ، وان يرفع راسه عاليا في كل مكان لانه وطني . 
 
وهنا اعتقد بانفكرة مفهوم المواطنه لا تؤخذ من غرور المتنبي التي كانت لاسباب خاصة به ، وليعذرني الادباء والشعراء لاختلافي مع هذا العملاق في هذه الجزئية ، فانا اعتقد بان الانتماء للعقيدة واللغة والوطن هي قاعدة للشرف ، وعلى القبيلة والعشيرة المؤمنة ان تحمل الوطن على اكتافها الى ان تضعه في المكان المناسب تحت الشمس ثم تهنأ بالعيش فيه.
 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد