لا للانتحار الاجتماعي في تونس - الحبيب مباركي

mainThumb

11-01-2018 02:18 PM

 تاهت موازنة العام الجديد 2018 في تونس، وتاه معها المتنصلّون من كل اعتبارات وطنية بحثا عن إكراهات سياسية تقيّد عمل الحكومة وتكبّل أدوارها في محاربة الفساد والدفع بعجلة النمو نحو أفق أرحب. وسط هذا المخاض الذي تمر به التجربة الديمقراطية في تونس، فإن الانتحار الاجتماعي الذي تدفع إليه بعض التيارات المعارضة بتأجيج الشارع يعتبر حمقا سياسيا مهما كانت المبررات والمسوّغات التي يرى فيها هؤلاء دفاعا عن الطبقات المسحوقة في تونس.

 
الشارع لا يمكن أن يكون بديلا في ظرف دقيق كالذي تمر فيه تونس حاليا. الشارع الذي أعاد اقتصاد البلاد إلى نقطة الصفر وأقل بكثير زمن الحراك الثوري وما تلاه، وأسهم في مغادرة العديد من المستثمرين لتونس، تراهن عليه المعارضة التونسية اليوم.
 
التنبيه إلى هذه الحال، وما سيترتب عنها من مساوئ لا تتحملها تونس، لم يحرّك الفاعلين السياسيين ولا الطبقة السياسية التي اختارت التخندق وراء المطلبية الشعبية دون أن تتردد في دعوتها للنزول إلى الشارع. لكن ماذا يعني النزول إلى الشارع ليلا؟ هنا السؤال الحقيقي الذي يفترض أن تقدم له هذه المعارضة إجابات وتفسيرات للعديد من التونسيين الذين تاهوا وراء التشرذم الذي تعيشه هذه الطبقة ومراهقتها التي بانت في أشد الأوقات حرجا بالنسبة إلى تونس.
 
هذا الجانب كشفت عنه سامية عبو المنتمية إلى حزب التيار الديمقراطي، بتعليقها على تنديد النواب بالمظاهرات الليلية في تونس وما خلفته من آثار تخريب ونهب للممتلكات العمومية والخاصة خلال اليومين الماضيين. عبو قالت أمام نواب البرلمان “أريد أن أذكّر الناس التي تتعجّب من التظاهر ليلا، وبالتحديد إلى نواب حركة النهضة.. لولا التظاهر ليلا لما أمكن لكم العودة من المنفى وتقلد منصة الحكم”، ملوحة في ذات الوقت بنفس الاتهام إلى نواب نداء تونس الذين عابت عليهم طريقة نقدهم للمظاهرات الليلية بالقول “لولا المظاهرات الليلية لما أمكن لكم أن تقتلعوا النهضة وتزيحوها عن سدة الحكم في اعتصام الرحيل”.
 
تبدو أزمة الاحتجاجات متوقعة بالنظر إلى ما عرفته البلاد طيلة فترات متزامنة من غليان واحتقان. فلا يكاد الحديث يتوقف في تونس في كل مكان تقريبا عن مسار الإصلاح الاقتصادي الضروري الذي أعلنت الحكومة الدخول فيه مؤخرا، ورافقته زيادة ملحوظة في الأسعار مع بداية العام الجديد لم يقو التونسيون على مسايرتها.
 
طور كبير من الهوس يحمل التونسيين إلى التفكير في أعوام صعبة مقدمين عليها بعد سبع أعوام “عجاف” تلت ثورة 14 يناير 2011. يتساءل الكثيرون يوميا عن الوضع الذي وصل إليه حال البلاد جراء حالة انفلات الأسعار والزيادة في الضرائب، فيما يردد آخرون عبارات من قبيل “انتظروا العام القادم”، في إشارة إلى أنه سيكون الأصعب على هذه الناحية.
 
هكذا بدت الحالة وهكذا ارتسم مشهدها بين الكثير من الفئات محدودة الدخل، فيما قطار الأسعار لا تركبه إلا قلة قليلة من الطبقة التي يمكن وصفها بالمتنفذة أو المنفلتة من تخمة البيع والشراء.
 
من هنا جاء سخط التونسيين على الطبقة السياسية وطريقة تحريكها للوضع لاعتباراتها الضيقة التي عبرت عنها توازنات المشهد السياسي مؤخرا. فقد أوحى المشهد السياسي في تونس خلال الأيام الماضية بملامح تعيد إلى الأذهان بوادر تشكل لمشهد سياسي جديد. ملامح بدت واضحة ترسمها ائتلافات جديدة واصطفافات حزبية.
 
أحزاب وجبهات جديدة، ائتلافات وتوافقات ثنائية، وعودة لأحزاب كانت معارضة ومنسلخة عن وثيقة قرطاج إلى صف الحكومة وخروجها منها ثانيا. كلها بوادر أعادت إلى أذهان التونسيين، في جزء منهم، طفرة الأحزاب بعد ثورة يناير 2011 بلا رقيب.
 
وراء هذا المشهد يتابع التونسيون هذا التغيير الحاصل بعين الملاحظ الحصيف الذي يتدبّر السر وراء كل هذه التحولات، التي وإن فرضتها طبيعة الاستحقاقات القادمة، أولها الانتخابات البلدية، إلا أنها تظهر أكثر مما تبطن همّ الأحزاب الوحيد في تونس وهو السعي وراء المناصب والكراسي قبل الاستحقاق وتقديم الإضافة لتونس والنهوض بها مما ينتظرها.
 
جادة هي الصيرورة التاريخية للالتفافات الحزبية في كل مناسبة واستحقاق تفرضهما الساحة السياسية في تونس، لكنّ بحثا دقيقا في تطورات المسار السياسي للحزبين الكبيرين، النهضة والنداء، ودعواتهما تارة للالتفاف حول الحكومة، وأخرى بالنفير والنفخ في آذان الشارع، لهي مقاربة لا يتخيّلها سوى تائه ضاعت بوصلته وفقد الطريق إلى المسار الصحيح، وهو حال الحزبين اللذين يكابران على أن ما يجمعهما أكثر مما قد يفرقهما من سدة الحكم.
 
رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، الذي أعلن الحرب على الفساد والفاسدين ومضى فيها أشواطا مطالب بخفض مستوى الأسعار وتحسين الظروف المعيشية للتونسيين. هذا مطلب لا حياد عنه في تونس. المشكلة أن الرجل منذ وصوله كثّف من العمل على هذه الناحية وقام بإجراءات وصفت بالعاجلة انخفض معها منسوب الأسعار، لكنه سرعان ما عاود الصعود بفورة لم يتحمل وقعها الجميع.
 
إيجاد توازن بين كل هذه المخاضات والتحولات التي تعيشها تونس هو بالتأكيد مهمة أكثر من شاقة تضيف عبئا للحكومة في ظل ائتلاف في السلطة يجمع حزبين بدأت عقدة الشراكة التي تجمعهما في الانفراط، فيما تتربص النقابات في كل المنعرجات لزلة أو هفوة من الحكومة للتنديد والتشهير ودعم الحشد.
 
لكن رغم كل ذلك وحفاظا على الهدوء الاجتماعي، فإنه لا بديل ممكنا أمام الطبقة السياسية في تونس سوى الحوار لإنهاء هذا الاحتقان وتهدئة الشارع وإعادة الأمور إلى طور التهدئة. الحلول ممكنة لكن الإشكال في وعي الطبقة السياسية بكيفية اجتراح المعجزات وتحويل ما هو سلبي إلى إيجابي، ما هو غير ممكن إلى ممكن وقابل للتحقق. فقط مطلوب رؤية إصلاحية يقف وراءها الجميع بلا اعتبارات سياسية ضيقة ودون إلغاء وتنافر تأتي المعجزات.
 
في هذا المستوى يمكن استحضار مثل تونسي شهير لطالما ردّده الرئيس الباجي قائد السبسي “الدق وصل الدربالة”، بمعنى أن جميع التونسيين في خندق واحد، لا مجال فيه للتراجع إلى الوراء في ظروف كالتي تمر بها تونس، إما التضحية وإما فإن المصير سيكون معروفا بلا مزايدات أو تعال من هذا أو انتقاد من ذاك.
 
الأساس في البناء أن يكون صلبا ومتماسكا ومقاوما لكل الهزات مهما كانت قوتها. يعكس هذا الكلام تنافرا واضحا في الثنائي الحاكم (النهضة والنداء) ودرجة قابليته لموازنة الأمور (تشغيل، تنمية، إرهاب وغيرها) وإعطائها الأولوية التي تستحق، وقبل كل هذا وذاك مصارحة الناس والخروج الدوري للإعلام وتوضيح العوائق وفك الرموز التي أدت إلى هذه المرحلة التي من المفروض أن تونس كانت قد طلقتها وتعافت من أشكال كهذه من الاحتجاجات التي تضر أكثر مما تنفع.
 
تونس في حاجة لمصارحة شعبية تكون مسنودة بمصالحة سياسية بين جميع الأطياف السياسية ومكونات المجتمع المدني يغلب عليها صوت شعار حرّ “تونس أولا”، استشعارا للحظة ووعيا بمآلات المستقبل.
 
 
كاتب تونسي
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد