ماذا تعلّم سنة العراق بعد سقوط الخلافة الداعشية؟ - أسعد البصري

mainThumb

14-01-2018 02:27 PM

 قبل عام واحد من سقوط الموصل أثار اهتمامي الشيخ محمد خميس أبوريشة الذي ظهر بتسجيل يقول إننا وبسبب عملاء الفرس صار الموت والحياة عندنا سيان، أصبحنا نبحث عن الموت لنرتاح. وتوّعد الجيش العراقي وهدّد بالتمرد المسلح متعهدا بأنه سيطرد الجيش العراقي من الأنبار نهائيا، قائلا إنه جيش طائفي حتى الجيش الأميركي كان أكثر أخلاقا ورحمة منه.

 
كان السيد أبوريشة يرتدي نظارات شمسية إيطالية “ريبان” وأناقته توحي بأنه شيخ قطري مترف وخلفه “جكسارات” دفع رباعي حديثة. كان يتحدث ويحرّض بصفته أحد قادة منصات الاعتصام في الأنبار.
 
بعدها بأيام صرف له رئيس الوزراء السابق نوري المالكي صكا بمبلغ كبير وصار قائد صحوات الأنبار والمدافع عن الحكومة ثم قام رجل انتحاري من معارفه بتفجيره ليحضر جنازته المالكي شخصيا. هذه ليست سياسة بل تصرفات عصابة من قطاع الطرق.
 
يجري الحديث في الأنبار هذه الأيام عن محاولات تنظيم القاعدة لتحريك خلاياها النائمة بعد هزيمة داعش والتحرك لضرب أهداف أجنبية حيوية في الأنبار. لهذا ترى الناس تتعاون مع مكاتب للحشد الشعبي والجيش العراقي في المحافظة وتزوّدهم بالمعلومات. فلم تعد لدى الشعب رغبة بانفلات أمني جديد أو نزوح جديد.
 
كتب لي محمود فهمي، من تورنتو، عن هذه الظاهرة الغريبة في الأنبار قائلا إنها قديمة وذات جذور. “أستاذ أسعد قرأت كتابا عن الرحالة الأوروبيين الذين زاروا العراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومنهم فريزر الفرنسي ورحلته عام 1848 التي مر خلالها بالشام ومنها إلى الفرات وبغداد. معظم الرحالة تعرضوا للنهب والبعض الآخر يدفع للجندرمة العثمانية لحمايته وكان اسم أبوريشة وعصابته الخطر الأول لدرجة تحصل معارك ويهجمون على القوافل بالسلاح. منذ ثلاثة قرون هذه طريقتهم”.
 
لهذا نرى أن الرسامين الاستشراقيين رسموا القليل عن العراق بسبب صعوبة السفر، بينما رسموا عن مصر وشمال أفريقيا كالمغرب والجزائر وتونس وكذلك سوريا ولبنان وفلسطين. لقد حُرمنا من أجمل فترة للفن الاستشراقي واللوحات الجميلة بسبب عصابات أبوريشة و”السلابة”.
 
هذا يفسر لنا سلوك بعض شيوخ الأنبار مع الدولة في العراق الجديد بعد 2003. تراهم ينتمون للإرهاب وبعدها يشتغلون صحوات لدى الدولة. يخلقون وظائف وهمية من تحت الأرض ويكلفون ميزانية العراق مبالغ طائلة بلا إنتاج مثمر. يقومون بعمليات سلب وسطو على الطريق السريع الذي يربط الأردن ببغداد وبعدها يطالبون بعقد ضخم مع أميركا ليعمل أبناء المحافظة في حماية الطريق السريع. كلها بطالة مقنعة وأخلاق سطو ونهب على ثروات العراق.
 
لهذا رفضت الحكومة العراقية ذاك بقوة لأن هذا يشجّع كل المحافظات العراقية كميسان والكوت والبصرة وغيرها على أن تقطع الطريق السريع أو تفجر السكة الحديد لغرض الحصول على عقود عمل بالملايين لحماية الطرق.
 
محافظة البصرة مثلا تنتج ما قيمته 70 بالمئة من ميزانية العراق ولا تكلف الدولة نفقات صحوات وحمايات ولا أعمال تخريبية كما تفعل الأنبار التي لا تنتج إلا القليل مقارنة بالبصرة. أعتقد بعد هزيمة داعش هذه الثقافة ذات الجذور التاريخية من السطو والإتاوات يجب أن تتوقف ولا يبقى سوى الأمان وهيبة الدولة.
 
نحن سنّة العراق علينا امتلاك الشجاعة الكافية لمراجعة النفس ونقد الذات والتوقف تماما عن شيطنة الشيعي وتحميله المسؤولية كاملة عن خراب البلاد.
 
تم الانتصار على داعش بسواعد العراقيين وهذا ليس بالأمر الهيّن. في العام 2014 صديق من محافظة الناصرية يقول لي إن ابنته كانت تبكي وتقول “أنا خائفة يا أبي. ماذا لو وصل داعش إلى هنا؟ لماذا نحن شيعة؟ ماذا سنفعل الآن؟ هل سيبيعونني في السوق لأنني رافضية؟”. إن العالم متلهّف لسماع الحكمة التي تعلمناها نحن سنة العراق بعد هذا الدرس التاريخي المتمثل بهزيمة داعش. إن أول الدروس يجب أن يكون تحمل المسؤولية عن الأخطاء وعدم إلقائها على الآخر.
 
البارحة شاهدت فيلما أجنبيا؛ المراهق يقول لأبيه أشعر بغضب ومستعد لأن أحارب العالم كله. والأب يقول له لقد كنت مثلك وحين تقدم بي العمر تعلمت أن من الأفضل لو أحارب هذا الشعور لأنه من الواضح أن العالم كله سينتصر؟ لهذا لا داعي لمحاربته ولا داعي للغضب. داعش هو هذا المراهق وعلينا أن نتعلم درسا. يجب أن يكون هناك تغيّر وأن نخاطب الحكومة العراقية بلغة جديدة تثبت لحكماء العراق أننا قد تعلمنا شيئا.
 
فتاة من الموصل كتبت لي “أسعد من يكون داعش؟ هو المئات إن لم يكن الآلاف من السنة العراقيين الذين لا أعرف ما إذا كانوا يعرفون بالمخطط الأصلي الذي شرحته لنا أم تم الضحك عليهم جميعا؟ كلامك صحيح أنا فتاة صغيرة والمفروض أعيش حياة حلوة وردية. غير أن هذا الحلم يصطدم بأنقاض مدينتي التي لازلت أبكيها هي وقتلاها. الطريق الذي أعبره من الجانب الأيمن للموصل إلى الأيسر كفيل بأن يجعلني أعبر مرحلة متقدمة من الاكتئاب، وأنا أتساءل يا ترى كيف كانت الحرب هنا؟ هل تختلف عن حربنا؟ لماذا هذا الدمار؟ كيف كان شعور الأهالي وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة؟ هل كانوا جائعين شبعانين خائفين أم استسلموا للموت بهدوء؟ وأتساءل أيضا ما ذنبهم؟ هل فروا ونجوا؟ أم ماتوا جميعا؟ أقضي رحلتي اليومية، التي تتجاوز الساعتين، إلى الجامعة وأنا شاردة الذهن في الخراب المحيط، أتساءل وأتمنى من يجيب. مدينتي التي أحبها تاريخيا وحضاريا وعمرانيا انتهت وحتى بشريا لم يعد البشر كما كانوا”.
 
الاعتصامات ضد الحكومة التي استمرت لسنوات ومهدت لظهور داعش كانت لتحرير بغداد من الفرس والحكم الشيعي وحماية البوابة الشرقية بتحريض قطري بالمال.فلنراجع أنفسنا بصدق. هل هناك دولة تقبل بأن تعتقل العشائر ضباطها وتلبّسهم “دشاديش” بدلا من لباسهم العسكري؟ قمنا بتسقيط هيبة الجيش والضباط وخلقنا شرخا ليس بين الضابط والشعب السني بل بين الضابط والضابط لأسباب مذهبية. لهذا هرب الجيش من الموصل فلا توجد ثقة بين الضابط الشيعي والسني ليقوما بحماية الموصل من داعش. لهذا سقطت المدينة بيد الانتحاريين الدواعش.
 
وخلال شهر واحد تحول الدواعش من عدة مئات إلى 30 ألف متطوع داعشي ولم يجدوا مقاومة تذكر. السنة قالوا ثوار عشائر عمدوا لتوفير الغطاء لهم حتى يتمكنوا، وأميركا منحتهم وقتا ليرسّخوا أقدامهم. ثم حدثت مجزرة سبايكر الرهيبة لشل العقل الشيعي بإصدار مرعب وتخويفه. استغرق الأمر وقتا حتى استعاد الشيعة ثقتهم بأنفسهم. ما الهدف من كل هذا؟ مجرد حقد على الشيعة وإيران.
 
عندنا خلاف سياسي مع إيران والشيعة ولكن ليس إلى درجة الانتماء لداعش، وليس إلى درجة ترويج الإشاعات بأن كيس المغذي الإيراني في مستشفيات الأنبار محقون بالإيدز أو أن المواد الغذائية المستوردة من إيران فيها مواد مسرطنة أو تسبّب العقم. هذه الكراهية المنظمة والإشاعات هي التي خرّبت البلاد وأوصلتنا إلى داعش في النهاية.
 
كلما ضجرت من القراءة أسمع مقطعا لأم كلثوم بصوت الشاعر نضال العياش. غنى على العود وكأنه زرياب الساحر وأرسلها لي على الخاص “شوف الأسوة بتعمل إيه” لكنه حين غنى بالعراقي لم يعجبني. هذه مشكلتنا نحن سنة العراق نسمع أغاني عربية من الطفولة ونسمع القرآن بصوت عبدالباسط عبدالصمد. نحن “حراس بوابة شرقية” لا نعرف من الغناء المحلي سوى الكاولية (الغجر)، ولا نصلي حين نتوب إلا خلف إمام سعودي. علينا التواضع قليلا خصوصا بعد هزيمتنا في الموصل. نحن ورثنا السلطة وإدارة الشعب العراقي من العثمانيين غير أن الشيعة هم العراق ولا جدوى من مدافعتهم بهذه الطريقة العنيفة واتهامهم بالخيانة والعمالة لإيران. فجذورهم في البلاد عميقة. الأشجار نبتت بسواعدهم والجداول جرى بها الماء الصافي بعرق جبينهم. الأفضل التفاهم معهم ووقف هذا النزيف الطائفي المدمر.
 
سؤال يطرح عليّ كثيرا: لماذا نحن عرب أولا وبالدرجة الثانية عراقيين؟ هذا في الحقيقة سببه التثقيف البعثي الطويل الذي تمكن منا لنصف قرن. وبعدها جاء التثقيف الديني السني والسلفي، كلها ثقافة أرضعتنا أن وظيفتنا محاربة الفرس المجوس والشيعة.
 
ليس مهمّا هدم الموصل المهم سلامة المدن العربية. ليس مهما بيوتنا بل المهم بيوت العرب. وحتى بعد بناء مدننا وبيوتنا نعود مرة أخرى للقيام بدورنا كعرب وليس كعراقيين، وهو حماية البوابة الشرقية من إيران. لهذا لا يوجد تذمر سني حتى من التقارب الشيعي السعودي العلني مثل فتح مكاتب تجارية في البصرة والنجف وليس في الموصل والرمادي وهذا الغزل البراغماتي بين الطرفين.
 
نحن نرضى بالقليل جدا من المملكة حالنا حال جميل بثينة ونضحي بكل شيء في سبيل العرب. حتى لو كان معنى التقارب الشيعي السعودي في العراق هو أنهما حلفاء كتب الله لهما النصر على داعش والإرهاب وأن المهزوم في الحقيقة هو نحن سنة العراق.
 
 
كاتب عراقي
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد