عندما تتفق قوى فلسطينية على تفتيت القضية - محمد أبو الفضل

mainThumb

12-02-2018 11:53 AM

 مهما قرأت في كتب التاريخ أو تابعت التطورات عن كثب، سيظل تفسيرك للأسباب الحقيقية لضياع القضية الفلسطينية قاصرا، لكن عندما تجلس مع مجموعة ممثلة لغالبية القوى السياسية، فتح ومنشقين عنها وحماس والجبهة الشعبية ومستقلين، ستفهم لماذا وصلت القضية الأم إلى هذا المنحدر.

 
دعتْني قيادة فلسطينية سابقة، الأربعاء الماضي، إلى جلسة مع طيف من هؤلاء، وما إن يبدأ أحدهم بالحديث حتى يقاطعه آخر قبل أن يُكمل رؤيته، وكلما قدم أحدهم رؤية ناصعة تدخّل ثان لعرض رؤية مختلفة، وما إن يحكي شخص عن موقف شاهده حتى يصر آخر على الحديث عن الموقف نفسه من منظور عكسي تماما.
 
الجلسة كانت ودية وشيقة للغاية، بلا تشنج أو مهاترات، تذكرني بلقاءات مؤيدي النظام السوداني مع معارضيه، للوهلة الأولى يبدو كل طرف حميما مع الآخر، وما إن تدور عجلة النقاش والتفاوض الجدي حول القضايا الخلافية حتى يتحول الأمر إلى عراك.
 
صاحب الدعوة، سياسي ومفكر فلسطيني كبير، كان يتدخل للتهدئة بلطف مصحوب بسخرية لاذعة عندما يجد الحوار احتدم بين الحمساوي والفتحاوي، الأمر الذي دفعه إلى القول أكثر من مرة “لهذا ضاعت القضية الفلسطينية”، في إشارة إلى إدمان الانقسام.
 
الحوار كان مهما، لذلك سأعرض المقتطفات الرئيسية منه ولأنه كان شخصيا اعتذر عن ذكر الأسماء، والفحوى يمكن أن تكون مهمة وتنطوي على دلالات تساعد على فهم مقاطع كثيرة من المشهد الفلسطيني.
 
سألتُ ممثل حماس في الجلسة المصغرة، وكانت في أحد أندية القاهرة ذات الشعبية الكبيرة، عن دور حماس في إخفاق المصالحة الفلسطينية، ترك جوهر السؤال وبدأ يستعرض تاريخ المصالحة وعثراتها والمشاكل التي واجهتها، واستطرد طويلا في الوصف والتحليل وكأنه يريد تجنب الإجابة.
 
عندما طلبت منه الدخول في عمق السؤال، تدخل الحمساوي الثاني، وقال المصالحة يمكن تقسيمها إلى جزأين، الأول ما بعد السيطرة على غزة عام 2007، ورفض تسميتها بالانقلاب على السلطة الفلسطينية، وحتى عام 2012، وهي الفترة التي تتحمل فيها حماس مسؤولية عرقلتها لأسباب سياسية، واعترف بأنها كانت تختلق الذرائع لإفشالها، وهنا قاطعه الحمساوي الأول ليؤكد أن للسياسة ألاعيبها وطقوسها. أما الجزء الثاني الممتد حتى الآن، فحركة فتح تتحمل فيه المسؤولية كاملة، نافيا عن حماس تهمة العرقلة، لافتا إلى أن المتغيرات الإقليمية لعبت دورا مهما في هذه النتيجة، وحركته عازمة على المصالحة لكن فتح تتهرب منها.
 
هنا تدخل الفلسطيني المنشق عن فتح، وكال الاتهامات لقيادة الحركتين، لكن الفلسطيني المستقل، اعترف بأن المصالحة أصبحت مستحيلة لأن كل طرف يرتاح للانقسام ويحقق أغراضه في التشبث بسلطة واهية.
 
سألت أحدهم، وكان قياديا في فتح وقريبا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس لمدة عشر سنوات، عن سبل الخروج من المأزق الحالي، فقال “مأزق مستمر ولا توجد آلية واحدة لوقف التدهور”، وبدأ يتحدث عن ضرورة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني للنظر في حزمة من القضايا العاجلة. وقبل أن يستكمل فكرته، قاطعه الفلسطيني المحسوب على الجناح الإصلاحي في فتح، قائلا إن أبومازن همّش غالبية القيادات التاريخية في الحركة ومن بقوا على قيد الحياة “مرضى صحيا أو سئموا الحياة السياسية”.
 
الحوار كان ممتدا، وقبل أن يتم استكمال شرح ملف معين، يتداخل معه آخر، وأعادنا أحدهم إلى موقف حماس من منظمة التحرير، وشرح جانبا من مناوراتها، ما اضطر أحد الحمساويين إلى الحديث بقدر من الصراحة والمباشرة، بشأن رغبة الحركة في السيطرة على المنظمة أو التأثير فيها من الخارج، وعندما أخفقت تمسكت بالاحتفاظ بمسافة بعيدة عنها. الكلام تشعب إلى نقطة ساخنة وهي سلاح المقاومة، وربما تكون الوحيدة التي اقترب الجميع من التفاهم حول ضرورة التمسك بها، وتكوين جهة واحدة لقيادتها.
 
المتحدث الحمساوي تفهم المنطق الذي تحدث به الآخرون وبدا موافقا عليه، ولا أعلم هل هذا موقفه الشخصي أم موقف حركته؟
 
في النهاية هي نقطة تدغدغ المشاعر، ربما قبلها من كانوا في الجلسة لإحراج أبومازن، الذي لم يكن يحتل مكانة جيدة في الحديث الفلسطيني، باستثناء صاحب الدعوة الذي التمس له العذر في الكثير من مواقفه ولم يشكك في نواياه الوطنية.
 
في هذه اللحظة انقض المنشق عن فتح، وحمل أبومازن مسؤولية التردي الذي وصلت إليه القضية، وتعامله الصارم مع أزمة القدس التي فجرها قرار دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إليها لا يعني ابتعاده عن الإدارة الأميركية. أبومازن لن يستطيع الصمود أمام واشنطن، ويحاول تعظيم مكاسبه إذا دخل الحديث عن صفقة القرن مرحلة جدية، لأن الفضاء العربي لم يعد يحتمل عبء القضية الفلسطينية وتوابعها السياسية والإنسانية وأصبح ظهر السلطة الفلسطينية مكشوفا.
 
الفلسطيني المستقل الهادئ، أكد أن الصفقة قادمة لا محالة وجرى تجهيز الأضواء على خشبة المسرح، لكنها لن تمر بسهولة، فإسرائيل سوف ترفضها لأنها تفرض عليها تقديم تنازلات، لا سيما أن قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لها لم يتحدث عن القدس الموحدة، كما أن الحل الشامل لن يستطيع بنيامين نتنياهو تحمل تكاليفه الباهظة.
 
في المقابل، لا توجد قيادة فلسطينية لديها الإرادة القوية على تقديم تنازلات صعبة في القدس أو غيرها، ربما ترتاح القيادة الحالية للوضع الراهن أكثر من الدخول في صفقة لن تتمكن من تمريرها، فقد انتهى زمن ياسر عرفات، صاحب أوسلو والسلطة الفلسطينية، التي هي في نظر المتحدث الفلسطيني “أهم إنجاز فلسطيني منذ عام 1917”.
 
في هذه اللحظة ازدادت سخونة الحوار وتداخل المتحدثون، وكاد النقاش يتحول إلى نقاش ثنائي، وكنا ثمانية أشخاص، بمعنى يتحاور كل اثنين فقط مع بعضها البعض، حتى تدخل صاحب الدعوة وفض الاشتباك وعاد الحوار إلى صورته الجماعية.
 
الحمساوي أمسك بطرف الحديث، معترفا بأن حركته استفادت كثيرا من أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية، ويكفي أن قياداتها وكوادرها في الخارج استطاعوا العودة إلى الداخل، وتمكنوا من الحصول على جوازات سفر ساعدتهم على التحرك بسلاسة. لم يفوت الفتحاوي هذه الإجابة وأصر على التوقف أمامها وإحراج الحمساوي، وسأله لماذا إذن ترفض حركتك منهج التسوية التي قادتها السلطة الفلسطينية؟
 
كان السؤال دقيقا وحاول الحمساوي الثاني، وهو قيادي في الحركة، المراوغة والتنصل من الإجابة، وعندما تمت محاصرته قال “إنها السياسة التي تفرض علينا خيارات في مرحلة ونرفضها في أخرى، وتجبرنا على تغيير مواقفنا من وقت إلى آخر”.
 
رغم أن الإجابة مطاطة وتقليدية وربما بدائية، فقد أكدت الطريقة الانتهازية التي تفكر بها حماس، فهي تريد الحصول على مكاسب من كل شيء دون أن تضطر إلى التضحية بأي شيء.
 
الجلسة التي امتدت لنحو ساعتين ونصف الساعة، أكدت أن المصالحة الفلسطينية مستحيلة، لأن ألف باء الوصول إليها التخلي عن المكونات الحركية والشخصية والالتفاف حول برنامج وطني مشترك، وهو ما ترفضه فتح وحماس وغيرهما.
 
كما أن القضية الفلسطينية دخلت نفقا مظلما، لن تخرج منه بصفقة قرن أو أي تسوية سياسية، فصيغة المراوحة والشجار والمناكفة والخلاف، لعبة متفق عليها ضمنيا من جميع الأطراف المعنية بالقضية، والخروج على النص يلزم تغيير منهج التفكير، قبل تبديل الأشخاص، وهي عملية تكاد تكون مستحيلة.
 
 
كاتب مصري
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد